في الأزمات الكبرى (أو من دونها)، كالحروب والأوبئة والصراعات المختلفة، يختلط تفسير الأمور اختلاط الطبقات والأجناس والمرجعيات الثقافية والعلمية والسياسية والاقتصادية، ويمتزج ما هو دقيق أو علمي أو طبي.. بما هو من الموروثات الخرافية أو المثالية أو حتى الشعبوية. فلنأخذ ما يعانيه العالم اليوم، أي الوباء الأخطر في تاريخ الأوبئة، وأفدحه خسائر في الأرواح وفي المجالات الأخرى، أي كورونا.ومن هذا الخليط العجيب والغرائبي في تناول هذه الأمور، تسود اللغة الشائعة (عموماً) أن يكون المرء «نسبياً» (أو نسبوياً)، يعني أن يمتلك كل فرد الحق في التفكير كما يشاء أو كما يرى مستقلاً عن الآخرين، أي باختصار: الاختلاف الشرعي بين الناس. لكن هل صحيح أن هذه النسبوية في مجالات محدودة، وغير محدودة، تخدم «الحقيقة» وتحلل الواقع، حتى وإن كان مركباً أو «اختصاصياً» علمياً، طبياً، اقتصادياً، أم ترى عكس ذلك؟ أي هل في مقاربات النسبوية مخاطر على طرح الحلول المناسبة؟الفيلسوف الفرنسي الكبير برونو لاتور يمثل الرأي المعاكس لهذه النسبوية، فيحِل محلها عبارة «العلائقية»، ويشرح ذلك في كتاب جديد أصدره حديثاً بعنوان «أين أنا؟»، يقول فيه: لا يمكن صوغ حقيقة ما لم تكن متماسكةً، عينيةً، مؤكدةً، ترتسم داخل شبكة علاقات متماثلة، توفر امتداداً في المكان والزمان. ومن خلال هذا المنظور (وهو غير جديد تماماً) يمكن اتخاذ مثل من صميم الحاضر المَعيش حالياً: وباء كورونا في هذه البؤرة المديدة، يقول دوتور إن الموضة العلمية المتصلة بالوباء، لم تستقر على أسراره، وتصيب حقائقه كلها بعد. وقد رأينا أن العلماء الجديين لا يمكن أن يكونوا نسبويين، إذ هم يحاولون بكل السبل أن ينغلقوا على وسائل سهلة كالإحصائيات أو الصِّلات، أي القوالب الجاهزة والفرضيات المسبقة، يتنافسون على معرفة أصل الوباء من دون أن تتعزز عندهم المعطيات. فعلينا أولاً معرفة أصل الوباء (وهذا ليس مؤكداً حتى الآن)، ومعاودة رسم الظاهرة في صميم شبكة علاقات متداخلة عمودياً وأفقياً.. وهذا يتطلب وقتاً وكثيراً من التكاليف الباهظة. لذا فضّل كثيرون إحراق المراحل أو القفز فوقها تحت ضغوط الطوارئ وأشكال الوباء، وخصوصاً المفاجآت التي تبرز لمراحل تطوره وتحوره. وتصدم العلماء.. وهذا بالذات يؤدي إلى احتمال ارتكاب المختصين أخطاء حول ما يمكن أن يأملوه من العلماء، مستعجلين انتزاع استنتاجات (غير ناضجة) عمومية ترتضي دفع ثمن الانتقال إلى أن يتخلوا عن النسبية ويقعوا في الإطلاقية (التجريدية) التي ليس لها مكان في العلم.لكن هذه المفاهيم التجريبية ليست جديدة، وقد اقتبسها الفيلسوف الفرنسي دوتور من البراغماتية الأميركية التي كانت مهمشة في التقاليد الفلسفية للقرن العشرين، مثل هنري برغسون في فرنسا، وجو ديوي وآلفرد بورشه في أميركا. وهي ردود قاسية على الظواهر الفلسفية المثالية عند ديكارت وكانط.. وهنا نركز على أن جون ديوي الذي أرسى بعمق منهج «التحقيق الاختياري» العلمي، بالاستناد إلى التعاون مع الاختصاصيين وأدوات صناع البرامج، ليتوصل إلى تفكيك مختلف الظواهر، مؤسساً بعمق الاتجاه البراغماتي.     ونظن أن هذا الاتجاه التشريحي التراكمي ينطبق أيضاً على الأزمة البيئية والاحترار المناخي... وعلى المنتوجات السياسية والاقتصادية! لكن تبقى البراغماتية الخالصة ناقصة إذا لم تستند إلى قيم وجودية ومسالك أخلاقية (مثالية في جوهرها) لكي لا تقع في مجاهل النسبويات والتواطؤات. *كاتب لبناني