هل تعني الحداثة عبادة العقل والنسبية في كل شيء، حيث لا يوجد دين ولا مقدس ولا مطلق؟ وهل من الضروري إدماج ثقافتنا وقيمنا التقليدية مع تفاعلات الحداثة، وخاصة من قبل النخب التقليدية لترشيد الفعل الحداثي؟

وهل المطلوب أسلمة فكر الحداثة وتسخير هذه الأخيرة لمصالح مجتمعاتنا إنْ صح التعبير، وتطوير تصور انفتاحي عقلاني تسامحي من أجل تكييف الثقافة الإسلامية مع متطلبات الحداثة؟

إننا جزء من العالم ولا نستطيع أن نعيش في جزيرة معزولة عن بقية العالم، وبالتالي لا جدوى من الطعن في مشارب ومصادر تطبيقات الحداثة السياسية والثقافية والاقتصادية الانحيازية الإمبريالية، بل ينبغي فتح باب الحوار على مصراعيه للتعاطي الإيجابي مع الحداثة الغربية، فنخب النخبة في عالمنا العربي مغيبون عن آليات التوافقية الحضارية، ولربما ترى أن الثقافة العربية الإسلامية غير قادرة كنموذج على التقارب والقبول غير الانتقائي مع الحداثة، والصدام من مقتضيات هذا التقارب، كما تمثل حرية أن يكون القبول انتقائياً وجزئياً، العلة في عقول تلك النخب التي يرى العديد منها أن الدين هو الضد للعقلانية، واستحالة المواءمة والمزج الإيجابي بين التراث والحداثة في هذه التوليفة باعتبار الحداثة عقلانية ومادية صرفة!

ففشل العقل في تفسير ما وراء الظاهر في الحياة والكون والكثير من الظواهر التي لا تخضع للتفسير العلمي والعقلي هو تحدٍّ قائم للحداثة، وإنْ كانت ما بعد الحداثة تتطرّق إلى عجز الإنسان عن فهم العالم المعقّد بعقله، وفشل العقل البشري في فهم واستيعاب كل ما يدور حوله وأن الحقيقة تصور وفهم شخصي.

وفي واقع الأمر هناك قطيعة كبرى في إدراك توجهات الحداثة وخفاياها بين السواد الأعظم في العالم العربي، وبين من يدور في فلك الفكر الغربي من الذين يرفضون الموروث والفكر الديني والفلسفي كشأن عام، وجعله شأناً شخصياً له انعكاسات محدودة على صيرورة الحياة. ولعل هذا يفسر أن من قُتل في الحروب والنزاعات منذ القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا، وما جلبته العلوم التجريبية من كوارث، يفوق خسائر البشرية منذ أن عرف الإنسان الحياة على مر العصور، وخاصة أن الاستعمار والحروب العالمية وضحايا مخلفات وتبعات العولمة الاقتصادية والمالية والصناعية والتقنية جميعها أمور من نتاج الحداثة. واليوم كلنا جزء من المجتمع الحداثي بعد أن رضخنا كثقافة تمجّد الذات كمنطلق رئيسي للحداثة.

 وبالمقابل تُعد الحداثة كالسيل الجارف الذي يأخذ في طريقه كل شيء، حيث وجدنا أنفسنا في المعمعة بعد أن فرضت علينا الحداثة في مخاض متعسّر كمفاهيم وليس كممارسات، وبالرغم من التمازج والجاذبية الطاغية للممارسات الحداثية، فهي الطريق السالك نحو المرحلة الأخيرة من تطور الإنسان.

 وإعطاء الأولوية للعقل المادي على التجريدي وإهمال البعد الروحي، هي عوامل تعتبر من أهم جذور التراجع في المجتمعات، التي تلهث وراء التقدم في إطاره الملموس فقط، وعدم إحداث التوازن بين مسار الذكاء المعرفي وما بعد المعرفي وأهمية اليقظة التعددية الفلسفية والمعنوية.

الحداثة ليست قراراً إرادياً أو سياسياً، هي واقع حادث بوضع اليد وشمول التأثير. صحيح أن هنالك تطوراً سريعاً ومطّرداً للأخلاق، ولكنه تطور ينحدر للأسفل وباتجاهه للانهيار لا للعلو، حيث إن إعطاء العلم والعقل القيمة العليا وجعلهما مرجعية في ذاتهما للأحكام، وجعل الإنسان وإفرازاته المعرفية وآفاقها التطبيقية، واحتياجاته ومشاهداته الحقيقية أو التصورية المادية مركزية الوجود، ومن ثم تحييد المقدس وكل الأفكار الماورائية وجعل فهم الإنسان وقناعاته الحكم الأخير في إصدار فرمانات الأخلاق، فإن هذا سقوط للأخلاق بحد ذاته.

قد ورثنا معارف وتقنيات في عالمنا العربي والإسلامي لم نستطع إلى الآن التفوق عليها أو حتى تفسيرها، وقد حكم على مجتمعاتنا ومنظوماتها المعرفية والأخلاقية والاجتماعية بأنها مجرد مجتمعات متهافتة تجاوزها الزمن، وتحقق الإنجازات التي لا تضيف لحصيلة النوع البشري بصبغته المعرفية الإنسانية الأشمل، وتحول العرب من ظاهرة صوتية شعرية إلى ظاهرة صوتية إعلامية.

*كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات