تنتظرك في حديقة «الهايد بارك» قيمتا الحرية والمساواة، حرية الذين يقصدونها للتعبير عن آرائهم في السلطة وأحوال البلاد وأحزابها، ومساواة بين العشاق في التتيم واللوعة والحنين والشجن. وعلى قدر ما تحزن لعدم وجود مكان مثله في أي عاصمة عربية، كي يذهب إليه الناس يصرخون في وجه أي ظلم أو خطأ أو إهمال أو فساد، فإنك تشعر أن الناس في بلادنا هم والإنجليز في العشق سواء. لا اختلاف في القلوب التي تنبض، وانتظار الإشارة قبل العبارة، وألم الفراق، ولذة اللقاء، لا يختلف الاثنان إلا في اختصار المسافة، حين تتلاقي القلوب، أو تأتلف الأرواح، وهذه مسألة لا علاقة لها بما يحس به الإنسان، هنا أو هناك، إنما بالقيود التي تفرضها تصورات دينية أو تقاليد اجتماعية.
في «هايد بارك» بوسع كل عاشقين أن يأتيا إلى هنا، ويسجلا على لوحة اسميهما وتاريخاً عزيزاً عليهما أو جملة قصيرة اتفقا على أنها تعبر عن حبهما، بينما كان مثل هذا لا يجري لدينا إلا في خطابات سرية متبادلة، قبل اختراع الهاتف النقال، وظهور الإنترنت، التي أتاحت وسائل أخرى للتعبير عن الشوق والرغبة. 
أما في متحف الشمع، فيمكنك أن ترى تمثيلًا لمختلف الثقافات والحضارات والسياسات، حيث تقف التماثيل الشمعية لعظماء في الفكر والعلم والأدب والسياسة والفن، جنباً إلى جنب، في انسجام لا يمكن أن تلقاه في الواقع الموحل بمقت ودم لا تجف منابعه، رغم النداءات الملهوفة لكثير من الفلاسفة وصناع السلام، كي توقف هذا الجحيم. 
وحتى تصل إلى هذه التماثيل عليك أن تمر بتجربة أخرى في التعايش بين القديم والجديد، يعرضها البريطانيون أمامك في بساطة، شرط ألا تكون من مرضى القلب. نعم، يجب أن تكون معافى، كي لا يتوقف نبضك من الرعب أو الدهشة، أو منهما بالتتابع. ففي البداية ستكون على موعد مع الهلع، حين تدخل نفقًا مظلماً عميقًا وترى فيه جرحى شجت رؤوسهم أو خدشت جلودهم غائراً، بعضهم يقف في وجهك باكياً صارخاً، وبعضهم ألقوا أجسادهم إلى جانب الجدران المهيبة، وخلفهم يظهر لك أناس يشهرون في وجهك السيوف والسكاكين. تشعر أنهم سينالون منك، حين يهجمون عليك، ليختبروا رباط جأشك، وعليك أن تتماسك. ورغم أنه تمثيل فهو متقن إلى درجة أنك تظن فعلًا، للوهلة الأولى، أنك قد وقعت في وكر قتلة، وأنهم سيزهقون روحك على الفور، لكنهم ما قصدوا سوى تسليتك بالرعب، وإعدادك لمشاهد قادمة تتقلب بين دهشة وعجب ووجع ورعب وحنين. 
ستمر حتماً، لتركب قطاراً مكشوفاً، يمضي على مهل، ليأخذك إلى أزمنة الإنجليز المتعددة، في السياسة والأدب والفكر. تاريخ أعده محترفون على مهل، ليعرف من يراه وهو راكب تلك العربات المتقاطرة تاريخ المملكة المتحدة، من شتى جوانبه، ويدرك التعايش بين وحدات متنوعة تتواشج لتصنع الرحلة التي مر بها بلد منذ أن صار دولة ثم إمبراطورية عاشت أكثر من قرن لا تغيب عنها الشمس، ثم غابت، وانحسر سلطانها، وعادت إلى حدودها الأولى، إلا قليلًا. هكذا يكون تاريخ أي بلد، يسهم فيه أرباب القلم، وأصحاب التجارب، والمصلحون الاجتماعيون وكل الذين قطعوا خطوات واسعة في سبيل تحصيل الخير وتعزيزه في حياة الناس.
إنه الدرس، الذي تخرج به، حين تصل العربات المقطورة المكشوفة إلى نهاية رحلتها القصيرة في المكان، والطويلة في الزمان، فالتعايش، بل التوافق والتواشج والانصهار، بين المكونات الحياتية التي تصنع مسيرة الدول، من فكر وعلم وأدب وفن وسياسة واستعداد للدفاع عن أهل الوطن وترابه.