أحسب أن عدداً كبيراً من المتابعين والمحللين السياسيين يقفون حائرين أمام ألغاز السياسة الدولية الراهنة، ويحاولون كشف أسرار الغموض في حقيقة توجهات الدول الكبرى، ويجتهدون في تفسير أحداث وتصريحات يرهقها الإعلام العالمي بالتأويل، حتى بات المتلقُّون يحارون في اختيار مَن يصدقون.. حسبكم ما حدث من عواصف إعلامية حول أصول فايروس «كوفيد-19» ومن المواقف العجيبة من اللقاحات المتنافسة، فما بالكم بالسياسات الخفية وتطلعات الدول القادرة على اتخاذ قرارات وصناعة أحداث تؤثر في مسارات الدول الحائرة في توجيه سفنها وسط رياح المتغيرات التي تعصف بها. وسيكون مبرراً أن يؤمن بعض الناس بوجود حكومة سرية تقود العالم إلى الانهيار.
على صعيد شخصي، بوصفي مهتماً ومتابعاً، أعلن حيرتي في فهم كثير من التوجهات والأحداث الكبرى، أحياناً أعتمد على الظن، مثلاً لم أفهم جيداً ما يحدث في أستراليا بين فرنسا والولايات المتحدة، وما سر إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا بعد أربع سنوات من توقيع عقد بيعها؟ وهل حقاً اكتشفت أستراليا بالصدفة أن الغواصات الأميركية أفضل من الفرنسية لأنها تعمل بطاقة نووية؟ قد تبدو القضية بعيدة عن اهتمامنا، لكنها تعبّر عن سياسة غامضة في وقت صرّح فيه الرئيس بايدن أكثر من مرة بحرصه على أن تبقى فرنسا حليفاً قوياً في المنطقة ما بين المحيطين الهندي والهادئ، بينما تصرفت الولايات المتحدة بطريقة تنافسية بذريعة وقوفها ضد طموحات الصين دون اهتمام بما يعينه هذا الموقف من تأثير على مكانة فرنسا التي تقدم نفسها رائدةَ الدفاع عن أوربا.
ويدفعني السؤال إلى محاولة فك غموضٍ سؤال سياسي آخر لا أفهم حقيقته فعلاً: ما هي طموحات الصين التي تخشى منها الولايات المتحدة؟ وما السر الحقيقي وراء الحرب الباردة التي بدأت تسخن إعلامياً لدرجة توقع قرب اشتعالها؟ أهي استعادة للحرب الباردة التي شغلت نصف القرن العشرين بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي؟ تقول إدارة بايدن إن الصين هي المنافس الوحيد الذي لديه القدرة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتقنية لتحدي النظام العالمي المستقر والمنفتح بشكل دائم! ويقول مفكرو البيت الأبيض إنه تنبغي مواجهة الصين إن كان ذلك ضرورياً والتعاون معها إن كان التعاون ممكناً، دون أن يشير هؤلاء إلى الخطر الضخم الذي ستجسده فكرة المواجهة مع الصين على العالم كله.
ربما نفهم أسباب نشوء الحرب البادرة بين الصين والولايات المتحدة، ومطالب أميركا التقليدية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان، فضلاً عن صراعات المزاعم الترامبية بتصدير كورونا، فنحن العرب بتنا أصحاب تجربة ضخمة مع الدعوات الأميركية لدعم الديمقراطية في العالم النامي، وصرنا واثقين بأن هذه المطالبات هي مجرد كليشيهات غير جادة بل مجرد ستارة تهدف إلى إلقاء مزيد من الغموض الذي عانينا منه (نحن السوريين)، وأطلقنا عليه «سياسة التخلي» مع ارتفاع سوية التصريحات الدبلوماسية. ويبدو أن «سياسة التخلي» بدأت تتسع، وأعترف أنني لا أفهم سبب توجه الولايات المتحدة المعلن للانسحاب من الشرق الأوسط، والتلميح إلى «القيادة عن بعد». ولعل الخبر الأفضل هو توقف الولايات المتحدة عن متابعة الحروب المكلفة دون جدوى (انسحابها من أفغانستان)، وما يحوم حول احتمال سحب قواتها الرمزية من الشمال السوري، والذي سيكون خبراً مفرحاً للسوريين جميعاً، إذ يصرون على أن تنسحب كل القوى الأجنبية من بلادهم، وعلى أن يعود كل السوريين المهجرين قسراً أو اللاجئين إلى وطنهم سوريا دون وجود غرباء تورط بعضهم في مستنقع الدم السوري. ولكننا إلى اليوم أمام غموض يلف تلك التدخلات، إذ هناك مَن يرى وراء الغموض دوراً للولايات المتحدة التي فوّضت روسيا بالملف السوري، ولم تعكس اتفاقية «كيري-لافروف» أي خلاف بين الطرفين، والمفارقة أن القرار 2254 كان بصياغة روسية، لكنه بات ركيزة أميريكا في رؤيتها للحل في سوريا. والطريف أن روسيا تشاركها ربط عقدة الحل بهذا القرار، لكنها سحبت المفاوضات من جنيف إلى آستانة وسوتشي، وهي تؤكد أن الحل سياسي ولن يكون عسكرياً.

*وزير الثقافة السوري السابق