72 عاماً هي الآن عمر حلف شمال الأطلسي (الناتو). وهذه فترة قياسية لحياة أية منظمة عابرة للحدود. ولهذا كان طبيعياً أن تثير الأزمة التي نشبت بين باريس وواشنطن، بسبب إلغاء صفقة غواصات فرنسية إلى أستراليا، التساؤل حول مستقبل الحلف وقدرته على الصمود. وليس هذا التساؤل إلا جزءاً من جدل يتجدد من وقت لآخر حول استمرار حلف عسكري بعد انتهاء التهديد الأساسي (الشيوعي في حالة حلف الأطلسي) الذي واجهه. ولكن الملاحظ أن حلف وارسو لم بكن قد أُنشئ، ولا كانت موسكو وحلفاؤها الشيوعيون قد طوروا قوة عسكرية تُهدد الغرب، عندما بُدئ في بناء هيكل عسكري متكامل لحلف الأطلسي. وإذا كان من دلالة لإنشائه قبل حلف وارسو فهي أنه بُني بطريقة تجعله قادراً على الاستمرار حتى إذا لم يكن هناك تهديد واضح أو مباشر.
ولهذا استمر حلف الأطلسي بعد حل حلف وارسو رسمياً في عام 1990، ولم يتحقق أي من التوقعات التي راجت حول صعوبة بقاء «الناتو» في غياب تهديد قوي ومباشر يحافظ على حالة التعبئة في الغرب. ودعم اعتقاد شاع حينذاك في أن الغرب حقق انتصاراً نهائياً تلك التوقعات على أساس أنه لم تعد ثمة حاجة إلى حلف يتطلب نفقات ضخمة في كل عام (بلغت ميزانيته 892 مليار دولار في عام 2020).
واستندت بعض تلك التوقعات أيضاً إلى أن الخلافات بين أعضاء في الحلف، وخاصةً بين الولايات المتحدة ودول أوروبية، تُضعف قدرتَه على الاستمرار. وهذا تحديداً ما يدفع إلى تجدد الجدل حوله الآن. فإذا كان الخلاف الأميركي الفرنسي عام 1966 قد هدد وجوده، وأدى إلى انسحاب باريس من قيادته العسكرية الموحَّدة، في ذروة التعبئة المرتبطة بالمواجهة ضد الشيوعية، فالمفترض أن يصبح أي صراع داخله أكثر حدةً وخطراً بعد أن زال التهديد الذي استدعى تلك التعبئة، ودب الاسترخاء في صفوفه. وهذا افتراض منطقي يرتبط بالنظريات التي تناقش أثر وجود صراعات خارجية على الأوضاع الداخلية، سواء في دولة أو في تجمع إقليمي أو عابر للأقاليم. فالصراع الخارجي يستدعي رص الصفوف ورفع حالة التعبئة، والعكس صحيح.
غير أن الخلافات التي نشبت بين بعض أعضاء «الناتو»، منذ حل حلف وارسو، اقتصرت كلها على معارك لفظية كانت في الأغلب من جانب واحد كما في حالة الخلاف الفرنسي الأميركي الذي أوقف في مهده، وإن بقيت أزمة عدم الثقة المرتبطة به. وهذه هي الأزمة الأكثر أهميةً التي تواجه الحلف الآن، بفعل ازدياد التباعد في المصالح الاقتصادية والاستراتيجية.
ولهذا لا يكفي احتواء الخلافات التي تظهر من وقت لآخر، لأن أزمة عدم الثقة قد تتفاقم، كما أن الدول الأوروبية قد تتمكن من تجاوز خلافاتها على فكرة الاستراتيجية الدفاعية المستقلة. وربما تعطي أزمة صفقة الغواصات، وقبلها مباشرة الانفراد الأميركي بترتيب الانسحاب من أفغانستان، دفعةً أقوى للمشروع الجديد القديم الذي بحثَه وزراء دفاع الاتحاد الأوروبي بشكل مبدئي في اجتماعهم الأخير. والمتوقع أن يصبح هذا المشروع في مقدمة جدول أعمال الاتحاد عندما تتولى فرنسا رئاستَه في مطلع يناير المقبل، لأنها أكثر الدول الأوروبية حماساً له.
وأياً يكن مآل هذا المشروع، فالظاهر أن صمود حلف الأطلسي حتى الآن لا يعني بالضرورة قدرتَه على الاستمرار لفترة طويلة في ظل أزمة عدم ثقة تفيد الشواهد بأنها آخذة في الازدياد، ما لم تبادر الولايات المتحدة إلى مراجعة سياستها تجاه حلفائها عموماً، وليس في هذا الحلف فقط، وإجراء حوار جاد وصريح سعياً إلى إزالة شكوك متنامية في التزامها بما يتوجب عليها في العلاقات معهم. 

مستشار مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية