قبل قرابة ربع قرن من الوقت الحالي كتبت عن أميركا وفقاً للدراسات المستقبلية آنذاك بأنها ستتسيد العالم لثلاثة عقود مقبلة أي إلى ما بعد يومنا هذا.

في الوقت الذي كان بعضهم يرى أفول أميركا وتراجعها، فإن استمراريتها في قيادة العالم حتى الساعة، هو سر الأسرار، يكمن في كونها ليست دولة استعمارية ولا إمبراطورية بالمفهوم السائد منذ قرون إلى أن حل زمن القرن الأميركي. انتهيت قريباً من كتاب يتحدث عن أميركا بعد مائة عام وليس بعد ثلاثين عاماً كما سبق، وهو رد مباشر على أمنيات بعضهم في زوال أميركا من الوجود. كما قال الشاعر: وما نيل المطالب بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غلابا. بماذا تغلبت أميركا على الأماني العراض؟ أميركا الدولة الوحيدة في بلا قانون كيف؟! وقوانين الدنيا تدرس في أعرق جامعاتها وعلى رأسها «هارفارد».

أميركا منذ استقلالها عن الاستعمار البريطاني، تعامل العالم أجمع بقانونها الذي صنعته لنفسها قبل أكثر من قرنين، ولا زالت سارية المفعول حتى على من استعمرها. لقد ظهر ذلك في أكثر من موقف، أشير إلى أوضحها، خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكسيت» كان بضغط مباشر من أميركا.

إفشال مشروع الولايات المتحدة الأوروبية في قلب إيرلندا التي هي أقرب لأميركا، التي استطاعت وقف الثورة المسلحة ضد بريطانيا في عهد كلنتون الإيرلندي الأصل وقد قام الأميركان من أصول إيرلندية بمكافأته في انتخابه رئيساً للولايات المتحدة لفترة ثانية بفضل 40 مليون ناخب أميركي من أصل إيرلندي.

والمثال الأحدث نجده في الضغط على أستراليا لإلغاء اتفاقية الغواصات التي تعمل بالطاقة النووية مع فرنسا والتي قدرت قيمتها المبدئية ما بين 30 إلى 110 مليار دولار أميركي، وهو ما تم فعلاً بلا تردد من قبل أستراليا وإن كانت تابعة ملكياً للتاج البريطاني. أعود بالتاريخ إلى فترة الخلافة العثمانية، أين كانت أميركا من خريطة العالم في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، الذي لم يعط للبعثة الأميركية منزلة السفارة كما كان الوضع بالنسبة لبريطانيا الإمبراطورية. اليوم أصبح لأميركا قاعدة عسكرية في تركيا، وأصبحت كذلك تركيا عضواً فاعلاً في «الناتو»، هكذا الأيام دول، وهي سنة الكون تجري على جميع الدول مع البشر.

هناك أسباب موضوعية تجعل أميركا العظمى المعادلة الصعبة لمائة عام مقبلة، نلخصها في أرقام بعيدة عن شحنة العواطف التي لا تعترف السياسة بها. أبدأ بقواها الناعمة، وأعني خاصة مكتبة الكونجرس التي تحوي على علوم الأرض بما يقارب أربعين مليون عنوان لا يسع عمر الإنسان لقراءة فهارسها. تحوي أراضيها التي تبلغ مساحتها قرابة عشر ملايين كيلومتر مربع، 70 مصدراً من مصادر الثروة الاقتصادية، وليس لها منافس في أي دولة أخرى. مؤشر الناتج المحلي الإجمالي، الأضخم على مستوى العالم، وهذه مقارنة مختصرة مع الدول الكبرى. حسب أحدث الأرقام، أميركا وحدها أكثر من 22 تريليون دولار، الصين قرابة 15 تريليوناً، الاتحاد الأوروبي كله قرابة 19 تريليوناً، وأخيراً اليابان قرابة 5 تريليونات دولار. أما قواها الصلبة في الخارج، لديها قرابة 70 قاعدة عسكرية ثابتة في مختلف الدول، وأكثر من 800 قاعدة متنقلة، وقرابة ربع مليون جندي حول العالم. ولم تجد لها حتى الآن منافساً، لذا هي تستعد منذ عقدين لمئة عام قادمة.

* كاتب إماراتي