في 31 يناير 2020، أعلنت منظمة الصحة العالمية وباء «كوفيد-19» الذي بدأ في الصين «حالة طوارئ صحية عامة مثيرة للقلق الدولي». وفي 13 مارس من العام ذاته، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب الوباء حالة طوارئ وطنية. ومنذ الشهور الأولى لعام 2020، أصبح الوباء تحدياً عالمياً. وأُعلن حتى الآن أكثر من 220 مليون حالة إصابة، وتوفي 5 ملايين شخص على الأقل جراء الوباء الذي ما زال يمثّل تهديداً عالمياً في أواخر 2021.

وخلال هذه الفترة، تعطّل الاقتصاد العالمي بشكل خطير، وغيّر سلوكٌ اجتماعي جديد الطريقةَ التي يعيش بها معظم الناس، وأصبح اشتراط التلقيح الإجباري موضوعاً سياسياً مثيراً للانقسام في كثير من البلدان. وكان التأثير على الخدمات الصحية، والنقل، والتعليم، والمراكز التجارية، وأماكن التسلية والترفيه.. غير مسبوق. ذلك أن الكثير من الناس خسروا وظائفهم ومداخيلهم، لكن بالنسبة لأولئك الذين استطاعوا العمل عن بعد، فإن خسارة الدخل كانت في الحدود الدنيا. وبالمقابل، ازداد الأغنياء في معظم البلدان غنى، وازدادت الهوة بين الأغنياء والفقراء اتساعاً.

الوباء أفرز عدداً من الوقائع الجديدة التي من المحتمل أن تغيّر الطريقة التي يعمل بها الناس ويعيشون. ذلك أن أحد تأثيرات الإغلاق كان تغييراً جذرياً في الطرق التي نتواصل بها مع بعضنا البعض. ولا شك في أن ظهور «زوم» باعتباره التطبيق الحاسوبي المفضل لتسهيل الحوار بين الأسر والشركات لن يختفي مع نهاية الوباء. فقد ازداد «زوم» وبرامجٌ أخرى مماثلةٌ له فعاليةً، ولا شك في أنه سيزداد تحسناً في المستقبل. كما أضحى تنظيم الاجتماعات الدولية بين الأكاديميين والمؤسسات البحثية والشركات والحكومات أيسر وأرخص بكثير من ذي قبل نظراً لانتفاء الحاجة إلى السفر والفنادق.

وبالمثل، أدى النمو الكبير في عمليات الشراء عبر الإنترنت من شركات مثل «أمازون» إلى زيادة أرباح هذه الشركات على حساب متاجر البيع بالتجزئة التقليدية التي أخذت تغلق أبوابها تدريجياً عبر العالم كله. وفضلاً عن ذلك، كان للوباء تأثير دراماتيكي على الطريقة التي يتنقل بها الموظفون بين البيت ومكان العمل وعلى اللباس الذي يرتدونه. ذلك أن الكثير من المكاتب في المدن الكبيرة أغلقت أو قلّصت عدد الموظفين الذين يأتون إلى الدوام. وكان من نتائج ذلك أن شهدت مناطق وسط المدينة انخفاضاً حاداً في عدد المسافرين اليوميين الذين يستخدمون وسائل النقل العامة أو سياراتهم الشخصية خلال ثمانية عشر شهراً الماضية. ومن نتائج ذلك أيضاً أن المرائب باتت شبه فارغة، والكثير من المحال التجارية والمقاهي والمطاعم التي تعتمد على موظفي المكاتب بارت أعمالها.

صحيح أنه مع تقلص الوباء أخذت بعض تلك الشركات والمحال التجارية تعود تدريجياً لتستأنف بعض نشاطها التجاري السابق، لكن بعض التغيرات الجوهرية في العادات ستترسخ وستصبح دائمةً على الأرجح. ومن ذلك مثلاً أن التحول إلى ارتداء ملابس أكثر راحة وأقل رسميةً، من أجل الذهاب إلى العمل أدى إلى انخفاض في استخدام محلات التنظيف الجاف وفي شراء ملابس العمل الرسمية وخاصة البدلات. وعلى سبيل المثال، فإن عملاق البيع بالتجزئة «ماركس آند سبنسر» أنهى بيع البُدل في العديد من متاجره. وفي الأثناء، أخذت عمليات التلقيح الجماعي في إخضاع الوباء والسيطرة عليه. ونتيجة لذلك، ازداد الطلب على العديد من السلع والخدمات.

لكن الأخبار ليست كلها جيدة. إذ ارتفعت أسعار السلع والخدمات، وعادت المخاوف من التضخم مع ذكريات سيئة من السبعينيات ونقص الطاقة. ولعل أوضح تأثير لتنامي الطلب كان على سلسلة الإمداد والازدحامات التي تسببت في فوضى في الموانئ الكبيرة في وقت اضطرت فيه سفن الحاويات للانتظار طويلاً في البحر بسبب الاكتظاظ قبل أن يؤذن لها بدخول الميناء من أجل تفريغ شحناتها.

ثم زاد نقص سائقي الشاحنات من إبطاء نقل السلع من الموانئ إلى وجهاتها النهائية. وغني عن البيان أن التأخير يتسبب في ارتفاع الأسعار مع تخوفات من عدم وصول كثير من المنتجات التي تم تقديم طلبيات بشأنها في مواعيدها قبل موسم الأعياد المهم في العديد من البلدان. ولا شك في أنه سيكون هناك مزيد من المفاجآت. والأكيد أنه إذا كانت إحدى نتائج الأزمة هو تعاون صحي عالمي وخفض كلفة الأدوية بالنسبة للأشخاص العاديين، فإن هذا سيمثّل خبراً ساراً. وبالمقابل، فسيكون خبراً سيئاً جداً إذا قوّت التداعياتُ النزعاتِ القومية والشعبوية المتناميتين أصلاً، مما سيزيد من احتمالات نشوء نزاعات دولية.

*مدير البرامج الاستراتيجية بمركز «ناشيونل إنترست» -واشنطن