أثبتت الفترة المنصرمة أن العالم استطاع مواكبة النور الذي تسلل من تحديات الجائحة، وراح ينسج بخيوط من إرادة الهيكلة الجديدة للعمل وأنظمة التشغيل، مستغلاً الظرفية الحرجة والمفاجئة التي فرضتها جائحة «كوفيد-19».
وفي ذات الوقت فإن هذا العالم عليه احتواء المتحورات، وتلبية المتطلبات، دون الاقتصار على المعطيات المتاحة، والاكتفاء بقبول المواد الخام الرتيبة التي اعتادت مجتمعاتُه استهلاكَها أو البناء عليها.
مرحباً بعالم المتحورات! فهو اليوم يفرض على المجتمعات الإنسانية غربةً قاسية، خالية من مقومات الشعور الإنساني، والدعم السيكولوجي، والذي باتت كافة شرائح المجتمع بحاجة ماسة له، سواء أكان ذلك من قبل براعم المجتمعات الغضة، أو شبابها المفتقر للتغذية النفسية حتى يصبح أملاً مستقبلياً خالياً من التشوهات، أو من جانب كبار السن المتعطشين لإيجاد ثمرة طيبة من العناية، بعد أن كرسوا مسيرة حياتهم كاملةً في سبيل إنعاش ونهضة المكان الذي لم يكن مصدراً للرزق وحسب، بل كان الحياة بذاتها. والعالم اليوم بحاجة لضخ النماذج الإبداعية الخلّاقة بغية إعادة برمجة قوى العمل، وتحديث أدواتها، في ظل المفاهيم الجديدة كلياً في مجال العمل عن بُعد، والذي طرح نماذج رائعة في العديد من التخصصات والمجالات بعد أن نجحت في دمج العاملين فيها وإكسابهم المهارات التقنية الجديدة. 

وفي حين تحتفل الحكومات بتجاربها التي نجحت في الإنجاز عن بُعد، وتحديثه وتطويره، فإنها ملزمة بإيجاد المسارب الصحيحة التي تحول نحوها الآلاف من المتعطلين عن العمل، بسبب الاستغناء عنهم، واستعاضة مهاراتهم بأدوات أقل تكلفة وأكثر إنجازاً، إذ يتوقع أن ترتفع نسبة البطالة لهذا العام (2021)، في المنطقة العربية تحديداً بما نسبته 12.5%، لاسيما في ظل تداعيات جائحة كورونا، وذلك بحسب تقرير لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الاسكوا).
وعند النظر في المكاسب التي جناها أصحاب الشركات ومدراء المؤسسات باتباع أسلوب «العمل عن بُعد»، من زيادة في الإنتاجية بنسبة تقدر بـ47%، منذ بداية الجائحة وحتى الانتهاء من الدراسة التي قدمتها مؤسسة (Business Wire) الأميركية، بالإضافة لما عثر عليه في شتى المجالات والشواغر من اكتشاف الطاقات والمهارات الدفينة التي دعت للاستغناء عن الكثير من القوى العاملة «قليلة الجدوى» والإنتاجية، أو تلك التي حلت الوسائل الحديثة مكانَها وقامت بدورها. وفي النظر للحالة الجديدة التي بدت عليها المهام الوظيفية، فقد انخفض عدد المهام في المجال المعرفي ليصل ما نسبته 12%، بعد أن كانت تشغل 27%، وانخفضت نسبة التفويض في مهام العمل من 41% إلى 27%، بحسب مجلة قياس أداء أعمال هارفرد (Harvard Business Review). 
وستحل التوجهات التجديدية والتحديثية في مستوى الاهتمام الأول لدى الحكومات التي سيكتب لها التفوق في النظام العالمي الجديد، وذلك من خلال توليدها المنظومات الدقيقة والفاعلة في بناء القدرات وتطوير المهارات.. بدلاً من المساحات الفارهة والمكاتب المزركشة التي أثبتت لنا الجائحة أنه يمكن الاستغناء عنها. 
وعليه، فعلى الرغم من صعوبة الاستقرار على صورة ثابتة لما ستكون عليه الأوضاع في خضم هذه العاصفة متراشقة التحديثات، فإن ما خلّفته من أضرار لا ينكر حاجته للعديد من السنوات والخطط، لتعويضه، وما ستنتهجه الحكومات بحلتها الجديدة من دوافع وحوافز تنعش من القطاعات المتضررة، وتروي ظمأ أفراد المجتمعات الذين يحمل كل منهم في جعبته سلة احتياجات لا يمكن تحقيق نهوض الدول من دون الاستجابة لها. 

أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة