انتهت برعاية كاملة من الولايات المتحدة الأميركية، «قمة الديمقراطية» التي دعت لها أكثر من مئة حكومة وجمعية ومنظمة حول العالم، وأثارت الكثير من الجدل المستحق حول المعايير التي بنيت عليها هذه القمة، والتي تقرر على أساسها توجيه الدعوات للبعض واستبعاد البعض الآخر.
أحد أشهر ردود الأفعال على هذه القمة وأكثرها صخباً جاء من المنافس الأقوى لأميركا دولياً، وهي الصين التي قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية في بيان نُشر على الإنترنت، إن «الديمقراطية أصبحت منذ فترة طويلة سلاح دمار شامل»، وأن أميركا تستخدمه للتدخل في الشؤون الداخلية للدول.
بعيداً عن الصراع السياسي والاقتصادي المتشعب بين أميركا والصين، فإن هذه القمة وهذا الجدل السياسي المحتدم بين القوى الدولية وبين ثقافات وشعوب العالم المتنوعة ودوله المختلفة حول «الديمقراطية» يشير بوضوح إلى أن بعض «المفاهيم»، يمكن استخدامها بالفعل كسلاحٍ لمعارك السياسية ومصالح الدول وكأداةٍ من أهم أدوات الصراع والعداء، وهو ما جرى على طول التاريخ وعرض الجغرافيا بين البشر جميعاً مع اعتبار التغييرات التي تطرأ على المعطيات الواقعية، فتجعل مفهوماً يتقدم على غيره أو يتأخر ليشكل بؤرة صراعٍ ومركز اصطدام.
هذه القمة الأميركية تعبر عن مستوى متدنٍ من استخدام «الديمقراطية» كسلاحٍ بعدما كانت أميركا تستخدمها بطرق أكثر نجاعةً وتأثيراً في الماضي، وهي تعبيرٌ عن ضعف السياسة والقوة أكثر منها رغبة في بسط النفوذ أو تمدد القوة، وبخاصة مع الانعزالية والانسحابية من العالم التي تسيطر على فكر اليسار الليبرالي الأميركي.
يردد الكثيرون بعض العبارات كمسلماتٍ لإنهاء أي جدلٍ مستحقٍ حول نجاعة الديمقراطية في إنهاء معاناة البشر وتنظيم صراعاتهم وبتجاهلٍ تامٍ لاختلاف الثقافات والحضارات والتجارب البشرية، ومن ذلك المقولة الشهيرة لرئيس الوزراء البريطاني تشرشل الذي كان يقول: «الديمقراطية نظام سيء، ولكنه الأفضل من بين خيارات كلها سيئة»، وبالتالي تمّ الترويج للديمقراطية ولتجلٍ واحدٍ منها هو «صندوق الاقتراع» على أنه «نهاية التاريخ»، كما كان يقول فوكوياما مرةً أو أنها الحلّ الناجع لكل مشكلات البشر وصراعاتهم.
مفهوم «العدالة» مفهوم أكثر رسوخاً ووضوحاً من مفهوم «الديمقراطية»، فـ«العدالة» أصلٌ و«الديمقراطية» فرعٌ، والجدل حول مفهوم العدالة أقل حدةً وتناقضاً من مفهوم الديمقراطية، ولكن الديمقراطية تمنح قدرةً على استخدامها كشعارٍ برّاقٍ وسلاحٍ يمكن من خلاله ممارسة الضغوط على الدول والأمم والشعوب، ولذلك فهو ما زال الأنجع والأكثر استخداماً.
صراعات السياسة وصدامات الحضارات وخلافات البشر ليست آنيةً وسطحية بل لها جذورٌ عميقةٌ في الفكر والمبادئ ودون الإحاطة بهذا العمق يتخبط المتصارعون وينجرف المنجرفون لأن المواقف تأخذ برقاب بعضها، ومن هنا فنحن بحاجة حقيقية للغوص في أعماق المبادئ ومعاني المفاهيم وبحاجة دائمةً للتنظير والجدل باعتبارهما أساساً يبنى عليهما لا باعتبارهما ترفاً وملهاةً.
بعيداً عن التجليات السياسية المباشرة، فالجدل الاجتماعي مؤشرٌ مهمٌ لرصد بعض الخلل في «الديمقراطية» التي يتم التبشير بها، وخذ مثلاً على ذلك قوة تأثير تيار «الشذوذ الجنسي» في أميركا حيث يشتكي كثيرٌ من المواطنين الأميركيين من تدخل هذا التيار الغريب، الأقلوي ولكن المنظم، في خيارات الناس والعائلات بتعليم الأطفال الصغار الحق في الشذوذ وتبني بعض منصات الدراما الشهيرة مثل «نتفليكس» له في إنتاجاتها الضخمة، وهذه التجليات هي ما عبّر الرئيس الروسي بوتين عنها صادقاً بأنها تمثل «وحشية».
أخيراً، فإن تجليات الخلافات حول «الديمقراطية» كثيرةٌ ومتشعبةٌ وفي كل شيء تقريباً، ومن ذلك الموقف من «مواقع التواصل الاجتماعي» داخل أميركا وحول العالم، فقد وصف الرئيس التركي أردوغان مؤخراً مواقع التواصل بأنها واحدة من أسوأ التهديدات التي تواجه الديمقراطية، وهو مثالٌ على إمكانية استخدام «الديمقراطية» بأشكال مختلفة.
كاتب سعودي