فيما ينشغل العالمُ بصراعات شتّى، قديمة وجديدة، عاد الفيروس فارضاً نفسه محوِّراً للاهتمام، وألقى المتحوّر الكوروني «أوميكرون» بثقله على موسم أعياد نهاية العام للمرّة الثانية، فاضطرّ خبراء العلم والاقتصاد للقول بأن التعافي مؤجّل إلى السنة الجديدة. لم تطلْ فترة الاسترخاء بعد الهجوم الوبائي، رغم كلّ ما بذلته المختبرات من جهد جبار في وقت قياسي. وأصبح السائد أن متحوّراً بعد آخر سيُديم القلق والحذر، بلا نهاية محسومة. سيستمرّ العمل لسنوات، تطول أو تقصر، قبل التوصّل إلى فك شيفرة الفيروس واحتوائه، ليغدو من الأمراض السارية المعروفة، غير القاتلة، ويمكن أن تُقاوَم منزلياً بجرعة دوائية عادية.
وفي الانتظار، هناك واقعٌ يجب التعامل معه، بحثاً عن «مناعة جماعية» لا تزال بعيدةً وغير ممكنة. حالةٌ واحدة «جديدة» من نوعها في أي مكان كفيلة بأن تصبح كونية في بضعة أيام، وقبل تقدير خطرها وإطلاق الإنذارات بشأنها تكون قد انتشرت. هذا ما خبِره العالمُ مع «أوميكرون» جنوب أفريقيا، وقبل ذلك مع «دلتا» الهند و«كوفيد» الصين، ومتحوّرات أخرى فرعية أقلّ شهرةً. في غضون ساعات وأيام قليلة، بعد الإعلان عن ظهور «أوميكرون»، راحت العواصم تحظر الرحلات من دول الجنوب الأفريقي وإليها. مع ذلك، هناك اليوم نحو مئة وثلاثين بلداً سجّلت إصابات بهذا المتحوّر، ويتواصل السباق مع الوقت لتأمين المواجهة معه. لكن الحكومات استشعرت خطراً أعادها إلى حيرة الخيارات مطلع العام 2020. 
كانت هذه الحيرة آنذاك بين فرض الحظر الشامل أو مراقبة الوضع والاكتفاء بإجراءات تدريجية، وتبيّن لاحقاً أن التأخر كان مكلفاً، خصوصاً في الأرواح. وهذه المرّة تأكّد أن العالم لم يبلغ مرحلة اليقين، فهل اللقاحات الخمسة المتوفّرة كافية بجرعاتها المعزِّزة؟ وهل يُفترض انتظار نوع من اللقاح لم يوجد بعد؟ أسئلة كثيرة طُرحت وظلّت عالقة، وسط تنافس الشركات المصنِّعة في امتداح منتجاتها، بمعنى أن هذا هو المتوفّر حالياً. لكنها استولدت تساؤلات أعمق عن «أوميكرون» نفسه ومتى يبلغ انتشاره الذروة، وكان بالإمكان تلقي الإجابة ونقيضها في آن، كالقول إنه الأخطر والأسرع انتشاراً، أو إنه أقل خطراً من «دلتا». فمثلاً عنونت صحف لندن جميعاً، عشية عيد الميلاد، أن «أوميكرون» ليس خطِراً، لكن الحكومة البريطانية تريد تمرير الأعياد ونشاطها الاقتصادي، فيما تتهيّأ لإعادة فرض قيود بعدها.
في الفصل الكوروني الجديد تبرز مسألتان: الأولى تتعلّق بالنقص المستمر في اللقاحات المخصصة للبلدان النامية، فرغم التبرعات والمساهمات الدولية لا تزال اللقاحات أقلّ من المطلوب، وبالتالي فإن هدف «المناعة الجماعية» العالمية يبقى بعيد المنال. والثانية تتمثّل في «رافضي اللقاح» لأسباب يستعصي فهمها، وهؤلاء باتوا ظاهرة أو عُقدة اجتماعية، بل حزباً. ورغم أن الإصابات ازدادت في صفوفهم فإنهم ازدادوا تطرّفاً وتحدّياً للحكومات في صراعها مع الوباء، كما في صراعها القانوني معهم، حتى أنهم تلقوا دعماً من مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان التي قضت بأنه «ينبغي ألّا يفرض التطعيم الإجباري تحت أي ظرف»، أما منظمة الصحة العالمية فدعت إلى جعله «حلّاً أخيراً». المشكلة أن احترام خيارهم الشخصي يترك شريحة كبيرةً عرضةً لاستقبال الفيروس وإيذاء أفرادها والآخرين، وأن إجبارهم على تلقّي اللقاح، بمنعهم من ارتياد الأماكن العامة، يقع في خانة التمييز وانتهاك الحريات. 

كاتب ومحلل سياسي -لندن