نقد الموروث موضوع ليس بالجديد، فقد أُشبع طرحاً وتشريحاً، مع العلم أن التطرق إليه بأي شكل يثير الجدل واللغط المؤديين في النهاية إلى مصادمات فكرية شرسة، وقد ينتهيان بحصر الهدف من نقد الموروث في «نقضه»، كما يتوهم حراس الموروثات الدينية التي لم يُنزِل الله بها من سلطان ولم ترد لا بكتاب ولا سنّة، بل هي موروثات ترتكز غالباً على العادات والسياقات الظرفية، الزمانية أو المكانية، وقت نشوئها لأسباب ساهمت فيها. لذلك فإن هذا النوع من النقد يواجه ممانعةً شرسةً تدعو إلى تغليب النقل على العقل، أو بصيغة أخرى تغليب الرضوخ للتقليد على التفكير العقلاني في مختلف فروع المعرفة والثّقافة، وليس الموروث الديني فقط.
تعتبر سطوة التراث الفكري في المجتمعات العربية عائقاً أمام الإبداع والخلق والابتكار. وفي مساحات الخصومة المعقّدة بين ذينك الاتجاهين يبقى العربي اليوم متردداً بين خطاب يحبسه بين أسوار الماضي وخطاب يزيّن له المستقبل، عبر تنقيح الموروث وفلترة أفكاره من كل شوائب دونتها عقول تماهت مع الماضي بأفكاره وظروفه. وبين هذين الاتجاهين شد وجذب كثيراً ما يستخدمهما دعاة الجمود والتقليد في تأليب الدهماء ضد دعاة التنوير والتحديث بغية نبذهم ونبذ أفكارهم. وهذا الانغلاق يقود بالضرورة إلى انسداد آفاق التغيير النقديّ والانكفاء على إحياء مقولات ماضوية نبتت وترعرعت في تربتها المجتمعية والتاريخية الخاصة، أي ممارسة الحاضر بأفكار الماضي ورفض أي فكرة تمس أفكار الماضي التي أصبحت لها قدسية امتزجت بقدسية الدين والعقيدة. وقد سادت في المتخيل الجمعي الإسلامي فكرة انحباس الموروث في حقبة زمنية خارجة عن السياق التاريخي ومتغيراته وتبدلات ظروفه، فأفضى هذا التصور إلى رفع الموروث إلى مرتبة القداسة في الذهنيّة الإسلاميّة، ليستحيل بعد ذلك قبول نقده وارتباط نقد الموروث بفساد العقائد، كون الموروث هو من «جوهر الدين»! وبالتالي فهذه الأفكار الموروثة هي بحد ذاتها تابوهات تتعارض مع شروط ظهور الفكر الإيجابي الساعي للإبداع والتفكير والنهوض بكل أشكاله (ثقافياً، وعلمياً، وتنموياً).
إن تسييد ثقافة البعد التراثي المقدس، بكل خطاباته ومسوغاته المجتزأة، وتحويل الموروث الديني -البشري- إلى جهاز عقائدي منغلق.. هو آفة بالغة الخطورة على جيل بأكمله يسهم في خلق مساحات شعبوية معبأة بفكر التطرف والكراهية والتعصب ورفض المختلف ليتحول هذا الفكر إلى فعل يؤدي في النهاية إلى الإرهاب والقتل. وهناك تجارب مريرة في هذا الشأن في عالمنا العربي والإسلامي منذ نشوء فكر الصحوة المنبثق من الفكر الإخواني وموروثاته الاستبدادية ومسوغاته المتطرفة المغلوط، حتى انتهى الأمر بخروج الجماعات المسلحة مثل «القاعدة» و«داعش» و«بوكو حرام» وغيرها. 

إن سحب «العصمة» من تلك الخطابات وتحرير الموروث من الارتهان لسطوتها، لن يتحقق إلا بالنقد والتحليل والتشريح لهذا الموروث بكل دقة وتأن، مع استحضار الحجج التاريخية الدامغة لإبطال تلك الموروثات المتشددة، وليفرّق المتلقي بين الدين والتدين، ويقتنع بأن الدين هو ما أنزله الله في كتابه وأن التدين هو ما تناقله البشر في حقب زمنية مختلفة، وأن الإسلام هو دين لكل الحقب، لذلك يجب أن يتماهى مع كل زمن دون الانكفاء على الماضي وإغلاق كل طريق للتفكير والتحليل والنقد، كما ينبغي نبذ كل فكر لا يتماهى والسلْم الإقليمي والعالمي ولا يجلب السلام والاستقرار لمجتمعاتنا.
ويبقى السؤال الذي يجب أن نسأله لأنفسنا: إلى أي مدى نجحت المجتمعات العربية والإسلامية في تعاملها مع موروثها الديني؟ وهل أحرزت تقدماً في هذا الشأن؟

كاتبة سعودية