مروان راشد، فيلسوف فرنسي شاب من أصل مصري وهو نجل مؤرخ العلوم العربية البارز رشدي راشد، وقد أصدر في السنوات الأخيرة دراسات رائدة في الفلسفة العربية الإسلامية الوسيطة في علاقتها بالموروث اليوناني وبالمباحث الرياضية والطبيعية وبمسارات تشكل الفلسفة الأوربية الحديثة.

في مقابلة منشورة مع «المجلة الفلسفية» الفرنسية (6 يناير 2022)، يبين مروان راشد أن الصورة السائدة عن الفلسفة الإسلامية زائفة، لكونها تحصرها في التقليد الأرسطي أو الأفلوطيني الممتد من الكندي إلى ابن رشد، مع النظر إلى هذا التقليد باعتباره مجرد ترجمة حرفية أو نقل مباشر للكتابات الفلسفية اليونانية.

ما يبينه راشد في مقابلته وفي دراساته وترجماته الهامة، هو أن هذه المقاربة تهمل اتجاهات كبرى في تاريخ الفلسفة العربية خرجت كلياً عن السردية الأفلاطونية الأرسطية واستكشفت جوانب نظرية وإشكالية غير مسبوقة في الخطاب الفلسفي، تمت في الغالب في تفاعل حي مع علم الكلام الإسلامي ومع الاكتشافات الرياضية والطبيعية، كما كان لها أثر قوي في نمط تشكّل الفلسفة الأوروبية الحديثة.

من هذه الاتجاهات الأفق الذي دشنه التفكير في أحوال الوجود، كما بدأ في علم الكلام الاعتزالي (لدى أبي هاشم الجبائي) ثم انتقل إلى المباحث الفلسفية، وكان محدداً في تشكل ميتافيزيقا اسبينوزا ولايبنتز. كما أن النقاشات الكلامية في ثنائية الشيء والوجود قد غيّرت جذرياً منحى التفكير الأنطولوجي من المقولات الأرسطية إلى سؤال التجريد، أي العلاقة الإشكالية بين الحس والتصور التي هي الخلفية العميقة للمنظومة الكانطية.

لم تكن هذه التحولات معزولة في السياق الفكري العام، بل هي حصيلة تغير نوعي في مقاربة النظر الفلسفي التي انجرت عن نقد المنظومة الرياضية الفيزيائية اليونانية (عناصر إقليدس ومحاورة تيماوس الأفلاطونية وكتاب الطبيعة لأرسطو)، بما أفضى إلى اكتشاف الرموز في الرياضيات (علم الجبر) وإبداع مفاهيم جديدة للحركة والزمن والفضاء المكاني..

كان لها وقع حاسم في مسار العلوم الحديثة. لقد انعكست هذه التحولات فلسفياً في الثورة الأنطولوجية الكبرى التي بلورها ابن سينا في مسار الميتافيزيقا من خلال ثنائية الماهية والوجود، وفي التصور الرياضي للطبيعة، وفي فلسفة الإرادة التي تعني القدرة الملموسة على الخروج من نظام الضرورات الطبيعية، بما يمهد الطريق لانبثاق مفهوم الحرية في دلالته الحديثة. السؤال المطروح هنا هو: لماذا لم تفض هذه الثورة الفلسفية الكبرى إلى انتقال المجتمعات العربية الإسلامية إلى الحداثة بالبناء على هذه المكاسب الكبرى التي برزت في العصور الإسلامية الوسيطة؟

كان المفكر الراحل محمد أركون قد دعا إلى البحث في ما أسماه «سوسيولوجيا الإخفاق في الفكر الإسلامي»، ويعني هنا ضعف تأثير كتابات وأعمال رائدة في السياق الثقافي العام رغم أهميتها الفائقة، وكان يشير على الخصوص إلى النزعة الإنسانية في آداب ابن مسكويه والجاحظ ومقدمة ابن خلدون.

وفي حين أرجع بعض الباحثين تعثر حركية التحديث العربي إلى عوامل ظرفية تتركز في الهجمة الإفرنجية شرقاً وغرباً والغزو المغولي الذي دمر النسيج الحضاري للمجتمعات المسلمة، بينما أولى باحثون آخرون أهمية كبرى لتحولات المنظومة الاقتصادية العالمية التي لم تكن في صالح تطور الهياكل التجارية العربية إلى الرأسمالية المالية والصناعية.. نرى أن انحسار التفكير الفلسفي في العالم السني العربي كان هو العامل الحاسم في تقهقر حركية التحديث العربي.

لقد استمرت الثورة السينوية حيةً في المجال الشيعي الفارسي، ومن أبرز تجلياتها فلسفة الوجود لدى صدر الدين الشيرازي الذي كان معاصراً لديكارت، كما استمر التقليد الكلامي الفلسفي حياً في خراسان وآسيا الوسطى رغم انحساره الكلي في مراكز العمران العربي الكبرى في الجزيرة العربية والشام والعراق ومصر والمغرب.

لم تؤد فلسفة التعقل الفارابية في نزعتها الكونية، ولا ذاتية ابن سينا وتأويلية ابن رشد.. إلى نقل الفكر الإسلامي إلى المحددات النظرية الكبرى التي صاغت حركية الحداثة الأوروبية، رغم وشائج الاتصال البارزة بين هذا الإرث العربي الإسلامي والفكر الحداثي الغربي، لا من منظور شعارات التأثر والتأثير، وإنما في أفق السردية الفلسفية الطويلة.

وبالرجوع إلى أطروحة مروان راشد، يتبين أن المطلوب هو استيعاب اللحظة الفلسفية العربية في تاريخية الفكر الفلسفي بمفهومها الموسع، ليس دفاعاً عن خصوصية هذه اللحظة ولا ذوداً عن صورة الحضارة العربية الإسلامية، وإنما تصحيحاً لاختلالات خطيرة في قراءة تاريخ الفلسفة في أبعادها الإنسانية الكونية.

*أكاديمي موريتاني