لم يكن من الجائز أو المحتمل أن يصمت البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية وراء جدران الفاتيكان عن المشهد الدموي الحادث في الحرب الروسية-الأوكرانية، وهو الذي لم ينفك يكرس حبريته للسلام بين الأمم والشعوب، والدعوة إلى الأخوة الإنسانية في كل بقاع واصقاع العالم.
طوال الأسبوعين الماضيين، وعبر أكثر من مناسبة، تحدث فرنسيس عن الحرب التي تزرع الموت والدمار في أوكرانيا، ومنادياً بأنه إذا أرادت روسيا نصراً حقيقياً فإنه يتوجب عليها أن تستمع لنداءات السلام، وأن تكسر شوكة الحرب.
يدرك فرنسيس أن الحرب سيدفع الجميع ثمنها، لا في روسيا وأوكرانيا فحسب، بل حول العالم أجمع، ويكفي ما تخلفه الحرب من تشويه للنفوس والعقول، ومن خراب يعم الضمائر، فتتحول عن النوايا الطيبة إلى تلك الشريرة.
يدرك الرجل ذو الثوب الأبيض أن هناك من يُلقي باللوم على حلف «الناتو»، والذي سعى لتهديد أمن روسيا عبر فكرة ضم أوكرانيا إلى أعضائه، غير أن فرنسيس يرى أنه وإنْ كان من المحقق أن يتحمل كل طرف جزءاً من التصعيد، الإ أنه ما من شيء يبرر أن يُجتاح بلد ما ويُسوى بالأرض.
الضمير الحي عند أسقف روما، يرفض أن يقصف المدنيون، ويُقتل الأطفال، وما من مبرر يرغم الأطفال على هجر دورهم والنزوح تحت القذائف وسط البرد والجليد.
لا يمتلك فرنسيس فرقاً عسكرية لتغيير الأوضاع وتبديل الطباع، ولكنه يمتلك قوة إقناع معنوية، وصوتاً صارخاً في البرية، يرفض هذا الصراع الأليم، لا سيما بين جارين بينهما قرابة دم ومصاهرة، عطفاً على تاريخ طويل من العلاقات الإنسانية.
أنفع وأرفع ما تحدث به فرنسيس الأيام الماضية قوله:«إن التاريخ يعلمنا كيف أن من يزرع الريح يحصد العاصفة، وأن نتيجة العنف تنعكس حتماً على صانعيه».
يعرف بابا روما أن آفة عصرنا تكمن في التطرف القومي والإيديولوجي، ولهذا فإنه يحذر من تصاعد هذه النبرة، والتي كانت من قبل سبباً رئيساً في دخول أوروبا إلى حربين عالميتين.
الأنظمة بحسب فرنسيس تزول عاجلاً أم آجلاً، لكن الإنسان الذي ولد حراً لابد أن يبقى كذلك، وأن تكون لديه القدرة على تلبية صوت الضمير النقي في داخله ليبحث عما هو في صالح الخليقة، وما هو في طالحها.
نقلت كاميرات التلفزة الدولية ولا تزال مشاهد قتل الأطفال، ووقوع القتلى ما بين مدنيين وعسكريين، والتسبب في إزهاق أرواح الأبرياء، وكل هذا يؤكد على أن سر الإثم يعمل في العالم، وأن الشر ينتصر في الجولة الحالية من الحرب الروسية الأوكرانية، والتي لا يعلم الإ الله مداها أو منتهاها.
لم يتوقف فرنسيس عند حدود التنظير الروحي إن جاز التعبير، بل تخطاه إلى محاولة مساعدة اللاجئين ومنكسري القلوب من الأوكرانيين، ولهذا أوفد مسؤول مكتب الكرسي الرسولي المعني بأعمال المحبة لصالح الفقراء، الكاردينال «كونراد كراييفسكي»، إلى بولندا ومنها إلى أوكرانيا، يصحبه الكاردينال تشيرتي العميد الفخري للدائرة الفاتيكانية المعنية بخدمة التنمية البشرية المتكاملة لكي يقدما الدعم الروحي والمادي للسكان الذين يعيشون تحت القنابل والرعب.
وصف فرنسيس ما يجري في أوكرانيا بأنه «أنهار الدموع والدماء» والتساؤل هل يمكن لهذه الكلمات أن تدفع جهود السلام ومن ثم الجلوس على طاولة المفاوضات وحقن الدماء؟
كاتب مصري