تمتاز المعارف البشرية بتشاركية وثيقة، تتلاقى في العديد من الزوايا، الأمر الذي دفع للقول بأن التغييرات الحاصلة في العلوم تؤثر على بعضها البعض.

لكن ذلك امتد حتى وصل للعلوم الدينية التي يتغير تأويل معطياتها مع التحول المرتبط بالعلوم الإنسانية والاجتماعية وغيرها. ويعتبر الإطلاق نقيض النسبية، ويقصد به أن يذكر الشيء باسمه دون اقتران بشرط ولا زمان ولا عدد، وهذا رأي ابن فارس. كما ورد في تاج العروس للحسيني بأن المطلق هو الغني المطلق والمالك المطلق لا إله إلا هو ولا رب غيره. والإطلاق في المنطق يتلاقى مع اليقين المتسم بالثبات.

أما المطلق في الفلسفة الدينية ففسره الفلاسفة حسب مذاهبهم، فمنهم من يرى أنه اللامحدود واللامشروط بغيره، ومنهم من يرى بأنه الكامل المستغني عمن سواه، وآخرون يرون بأنه المبدأ الشامل الذي ينطوي عليه الكون، دافعاً باضمحلال الاختلافات.

وإذا ما أردنا الإجابة عن النسبية في الدين ذاته، وعن احتمالية وجودها، فلابد من العلم بأنها موجودة صراحةً فيما سوى أصول الدين، وفي الركائز الأساس التي تميز هذا الدين عن غيره. أما النسبية عموماً فتكون في ما هو محتمل وفيه أكثر من خيار، بل وُجدت لتثبت صلاحيةَ الدين لكل زمان ومكان، ولتيسير الحياة على الإنسان، ففي قول الباري: «إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ ۖ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».

فنلحظ هنا النسبية في درجة الاضطرار، وتقدير الضر، والتي تختلف من موقف لآخر، ومن إنسان لإنسان. لكن القول بنسبية الدين ككل، أو نسبية الحق والأخلاق، مسألة مرفوضة لما فيها من إلغاء كلي تعميمي للدين من أساسه، ومخالفة للصريح الوارد من القرآن الكريم والسنة النبوية. وفي نسبية المعرفة الدينية، لابد من الإشارة للعلاقة فيما بينها وبين فهم الثابت والمتغير في المعرفة الدينية ذاتها، ففي الشريعة تجد الأصول والكلِّيات الثابتة، وهي التي لا يطالها التغيير مطلقاً، ولا تقبل النسبية.

وأما ما فيها من الفروع التي بنيت اعتماداً على الثوابت، فهي قابلة للتغير والتأثر بتحول الظروف والأحوال الاجتماعية والثقافية وغيرها من معطيات العصر. وهنا تتأتى وظيفة الاجتهاد في الفقه الذي يميز بين القابل للنسبية والمطلق، من خلال الكشف عن الأصول الكليّة والثابتة التي أوضحتها مصادر التشريع، وتبيين وسائل تطبيق تلك الأصول على الموارد الفرعية، وكيفية تفعيلها مع اختلاف الأزمنة والظروف.

ومن الجدير بالإضافة، أن العامل على توضيح النسبية الحاصلة في المعرفة الدينية لا بد له من امتلاك أدوات ناضجة وجامعة من العلوم، فتوضيح كهذا لا يقوم على وجهة نظر منعزلة، بل على انفتاح وثقافة دائمة التوسع في العلوم ذات الصلة. وفي ذلك إلماح لما يسمى «التكامل المعرفي» الذي يأتي بعد التمكن من العلوم الشرعية الضابطة. وفيه إشارة لاختلاف تأويل النص الشرعي باختلاف الخلفية المعرفية والشرعية للقائم على ذلك التوضيح، والتي وصفها السيد جعفر العلوي بدقة، في تناوله لموضوع الدين والحداثة، قائلاً: «سنرى أن المعرفة الدينية تتوالد من القارئ من خلال شبكة معارفه وتمنياته دون أن يكون لنا أن نفهم ما يريده الرب الذي بعث الأنبياء وأنزل الكتب.. وهكذا يكون المسلكان الديني/ التأويلي متباينان جداً بل هو التناقض الصريح.

فمن الواضح أن إطلاقية النسبية هي هدم للفصل بين الحق والباطل وهي رجوع إلى ديانة صوفية عالمية تتقبل كل معارف البشر دون أن تتسع للدين الإلهي».وفي الإشارة لنتاجات الحديث عن النسبية في المعرفة الدينية، لابد من الإشارة إلى أن المعارف المرتبطة بالواقع هي جزء خاضع للمعرفة الدينية الشاملة التي جاءت محكمةً لقوانين الطبيعة، وضامةً لدستور كوني مطلق، لا يمكن تقييده بالنسبية، وذلك يتضح في قول الحق تعالى: «إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ».

أما تلك النسبية فواقعة لا محال في فروع الشريعة الخاضعة للتغير والتأثر بمعطيات الزمان والمكان. وكما يقول أحد الباحثين (آية الله مطهري)، فإن القول بنسبية المعرفة الدينية راجع إلى أصلين أساسيين متمثلين أولا بترابط المعارف والعلوم البشرية على العموم، وثانياً بتغذي المعارف الدينية من المعارف غير الدينية، واللتين إن رفضنا إحداهما نكون قد رفضنا في الواقع القول بـ«النِّسبية المطلقة للمعرفة الدينية».

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة