لقد اعتدنا على ترحيل أنظارنا بمجرد سماع كلمة «حداثة»، لتتجه نحو أوروبا والبلاد الغربية عامةً. ولذلك المصطلح المشبع بالتجديد العديد من الأساسات التي دفعت بوجوده بلا شك. وبالرغم من الارتباط بين ما يشابه الحداثة من تحديث، أو مصطلح «العصر الحديث»، إلا أن مصطلح الحداثة بذاته يدل على «حدوث» الجديد، والذي تتناوله المجتمعات البشرية كعنصر «غريب» عنها، إذ يتميز بكونه لم يسبق تصفيفه ضمن كم التجارب الإنسانية الغابرة، مما ينتقل بالمجتمع عبر هذه التجربة الجديدة إلى مجتمع حديث. ولذا نجد أن لفظ الحداثة (moderne) استخدم للتعبير عن الحرية أو الانفتاح الفكري، وبخاصة لارتباطاته الوثيقة بقضايا الفلسفة والموقف من الدين. وفيه يقول عالم الاجتماع الألماني يورجن هابرماس: «إن الحداثة تعبير دائم عن وعي عصر ما، يُحدد نفسه، ويفهم ذاتَه، نتيجة للانتقال من القديم إلى الحديث». كما عبّر «جيدن» عن الحداثة بصورة دقيقة، حين وصفها بأنها انقطاعات تاريخية عن المراحل التي سبقتها، من خلال هجران التوليدات التقليدية العقدية المنبثقة من الشمولية الكنسية. ويبدو جلياً من التعريفات الغربية تأثرها العميق بالتجربة الإنسانية مع سلطة الكنيسة، حتى لا يكاد يخلو تعريف غربي للحداثة من الإشارة إلى تلك التجربة وما طبعها من صعوبات. وبالطبع فإن الفيلسوف «كانط» الذي يعتبر من ركائز الفلسفة الغربية الحديثة، يشير لضرورة تحرر الإنسان من سلطة المقدس، ورجال الكهنوت، و«أصنام العقل».. حتى تتحقق الحداثة. 
إن بلدان الحداثة هي تلك الأوطان التي لم تقم من مرحلة «الحبو» إلا بعد أن نفضت عن ظهرها ثقل التراكم الديني الموروث، ونزعت قناع النمطية الفكرية والثقافية، منتقلةً نحو بساتين فكرية خصبة بعيدة عن جدب «الانتكاسات القديمة»، محلِّقةً بأبصارها نحو النمو والتطور التكنولوجي والصناعي والسياسي والاقتصادي. إذ يمكننا وصف الحداثة الأوروبية بمخالفة القديم، والاتجاه نحو المواكبة التقدمية في المجالات المتفوقة، والتي دفعت إلى تضاؤل وانكماش كبيرين لدور القديم الجامد، أمام «فورة» المستجدات. 
وبالنظر لما تصطحبه معها دلالة «الحداثة» التي ظهرت في القرن التاسع عشر، نجدها تشير أولاً إلى إحداث التغيير، وتبدل الحال، كما تحتل مكانة بارزة في اهتمامات علم الاجتماع، إذ يعتبرها محاولة جادة لإحداث تواؤم مجتمعي يتداخل وظروف الوجود البشري «المستجد»، وبذلك تتشكل مرحلة جديدة ذات عوامل متغيرة. وهذا ما يفسر الحداثة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.. التي بدأت تظهر في الغرب تدريجياً بعد العصور الوسطى، ليتبعها عصر التنوير الذي قفز بالعقل الغربي مراحلَ متقدمةً من خلال حداثة علمية وتقنية أحدثت النقلة الاجتماعية الأكبر في تاريخ الغرب، سيما أنها (أي الحداثة)، كما يقول ماركس وماكس فيبر، جسدت صورةَ نسق اجتماعي متكامل، وملامح نسق صناعي منظم وآمن، وكلاهما يقوم على أساس العقلانية في مختلف المستويات والاتجاهات. 
ومع ذلك، فلصمام التحول (الحداثة) دلالات أبعد من حصرها في مجال سياسي أو ديني أو قيمي اجتماعي.. سيما أنها تضع يدها بيد الحضارة لتعقد اتفاقاً واضحاً حول كينونة هذه الحضارة، مؤذنةً بوشاح جديد يزين عنق المجتمعات وتاريخها، مخرجةً أفرادها من ضيق التقليد، ومنتقلة بهم نحو حضارة مشبعة بالتنوع الثقافي والفكري، سعياً نحو تكوين «فسيفساء عالمية متناغمة». 

ومن الجدير بالإضافة هنا أن الحداثة الغربية لا يمكن تناولها كما هي، إذ أثبتت انعكاسات ردود الفعل من خلال النزوع نحو القطيعة التامة مع الماضي والثورة عليه، والاعتماد على العقل بتجرد تام مما سواه، ولذا فالأجدر للوصول لمعنى حداثة أقرب للمثالية، هو إحداث تناغم بين مدلول تلك الحداثة لدى الغرب وغيره، إذ عُرفت الحداثة عند العرب على أنها لا تكون إذا لم تنهدم البنية التقليدية السائدة للفكر العربي، وما لم يُتَخَلَّص من النسق الديني التقليدي الاتباعي عامة، كما يقول أدونيس. وهو تعبير عن حالة «البحث المستمر للتعريف على أسرار الكون من خلال التعمق في اكتشاف الطبيعة والسيطرة عليها وتطوير المعرفة بها، ومن ثم الارتقاء الدائم بموضع الإنسان من الأرض. أما سياسياً واجتماعياً، فالحداثة تعني الصياغة المتجددة للمبادئ والأنظمة التي تنتقل بعلاقات المجتمع من مستوى الضرورة إلى الحرية، من الاستغلال إلى العدالة، ومن التبعية إلى الاستقلال، ومن الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن سطوة القبيلة أو العائلة أو الطائفة إلى الدولة الحديثة، ومن الدولة التسلطية إلى الديمقراطية»، كما يراها جابر عصفور.
ومن ذلك كله يمكننا القول بأن الحداثةَ المنشودةَ، ألحّت أينما حلّت على ضرورة التجديد، وعدم تلقي الموروث دون «تمهل استقرائي» متمعن، يمكِّن المجتمعات الإنسانية الحديثة، والراغبة في حداثة خالية من التشوهات، من التفريق بين الغث والسمين، ومن التوجه نحو تناغم حضاري عالمي دون إفراط ولا تفريط. 

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة