إذا كان انهيار جدار برلين قد مثّل الانطلاقةَ الأكبرَ للعولمة، فإن تداعيات حرب أوكرانيا وما يصاحبها من عقوبات ضد روسيا، وعقوبات روسية مضادة، وما تحمله من تبعات جيوسياسية.. بدأت تضرب المفاصل الأساسية للعولمة الاقتصادية، وجعلت التطورات السياسية في صلب قرارات المستثمرين. لذا تشهد الخريطة الاستثمارية العالمية تعديلات جغرافية، في ضوء هجرة رأسمالية كثيفة، وحركة انتقال كبيرة لأثرياء العالَم. ولوحظ أن جهودَ الشركات بدأت تتركز على نقل الأعمال إلى «المركز» والتخلي عن «الأطراف»، وهو الاتجاه العكسي للعولمة. 
لا شك في أن الفرق كبير جداً بين «المركز» الذي يتمثل بدول الغرب الرأسمالي، ويعتمد على الإنتاج والإنجازات العلمية والتكنولوجية، ودول «الأطراف» التي يعيش معظم شعوبها حالةَ تخلف تعود أسبابها إلى تمسكها بالعادات والتقاليد، وإلى ارتفاع نسبة الولادات والبطالة والفقر، وسوء الإدارة وفسادها، في ظل قلة الإنتاج والإنتاجية وكثرة الاستهلاك. لذا هناك تفاوت شديد بين نمو المراكز المتطورة، وتمثل «الرأسمالية» بوصفها بنية واحدة، وبين الأطراف المتخلفة. مع العلم بأن هناك أيضاً تفاوتاً بين دول المراكز ذاتها، كالتفاوت بين الولايات المتحدة وبريطانيا، وبين ألمانيا وإيطاليا. لكن اللافت أن معظم تقارير المقارنة تتجاهل علاقة النهب والتدمير التاريخية القائمة بين دول المركز «الناهبة» ودول الأطراف «المنهوبة». ومن هنا تبرز خطورة مقولة بعض الخبراء، بأن «تعاظم النمو في المركز، هو تعاظم للتخلف في الأطراف»، كذلك إلغاء التنمية في الأطراف يشكل جزءاً عضوياً من علاقة «الفاعل التاريخي» التي ترجح التصنيع في المركز. إلا أن النظرة إلى التخلف ستبقى قاصرةً ما لم يتم جمع عوامل التخلف كافة، ونقدها في نظرية شاملة لا تستثني العلاقات التاريخية، ولا تفاوت النمو الرأسمالي على المستوى العالمي.
لقد وفرت العولمة على مدى عقود خفض تكلفة الإنتاج والخدمات، وتراكم الثروات بشكل كبير، وفتح الباب أمام بعض الاقتصادات الصاعدة للاستفادة من إستراتيجيات الاستثمار للشركات الكبرى.. ما ساهم في مضاعفة حجم الاقتصاد العالمي ثلاث مرات، وانتشال 1.3 مليار إنسان من براثن الفقر المدقع. وفي الوقت ذاته، توسعت الهوة بين الأثرياء والفقراء. لكن يبدو أن تأثير انتهاء العولمة سيكون أوسع نطاقاً وسيطال الاقتصادَ بكامله. ومن هنا جاء تحذير صندوق النقد الدولي من مجموعة كوارث سيواجهها العالَم، سببها وباء «كوفيد-19» وارتفاع الأسعار، وتشديد الأوضاع المالية وتعطيل سلاسل التوريد وخطر المناخ، وتصاعد التوترات. ومنذ اندلاع الحرب في أوكرانيا أقدمت 30 دولةً على تقييد التجارة في مجالي الغذاء والطاقة، حتى أن تكاليف المزيد من التفكك ستكون باهظة عبر العالم.
ومع تفاقم الديون العالمية التي تجاوزت 300 تريليون دولار، ووصل متعثر السداد منها 250 مليار دولار، يواجه العالَم هوةً خطيرةً بين الناتج والدَّين، حيث يوازي الدَّين 3.5 ضِعف الناتج. لكن مخاطر الديون مرتبطة بالتفاوت الواسع الحاصل بين الدائن والمدين. فالدول الفقيرة تَغرَق في الديون التي قد تصبح مستدامةً، ما يجعلها مستباحةً أمام الدول الدائنة التي تمارس عليها أشكالا من الضغوط والنفوذ، للسيطرة على قرارها السيادي والتحكم بثرواتها ومواردها، وتفتح السوق أمام رؤوس الأموال الأجنبية، واستغلال الشركات العالمية، بشكل لا تستطيع معه الدول المدينة الخروج من«مصيدة ديون الدولار». 
ومع إعادة تدوير«الفوائض المالية» في النظام المالي العالمي، تتعزز نظرية هنري كيسنجر القائلة بأن السيطرة على العالَم تكون عبر المال، فمَن يسيطر على شرايين المال، يسيطر على العالَم، وبالتالي لا داعي للانخراط في الإنتاج. وهكذا تظهر مخاطر «الاستعمار الجديد» على شكل «الديون مقابل التنمية»، لكن ذلك لا يعني أن جميع التدخلات التنموية هي تدخلات استعمارية. 

كاتب لبناني متخصص في الشؤون الاقتصادية