أكثر ما يخشاه الأوروبيون أن ما يحدث الآن ليس سوى البداية. ومع ارتفاع درجات الحرارة ستكون هناك بالمقابل درجات برودة شديدة وصقيع غير مسبوق منذ قرون، والوصول إلى أقصى درجات التطرّف المناخي الذي يحتّم تغييراً كاملاً في أسلوب الحياة ودون رجعة، حيث يعدّ الجفاف الحالي الذي تتعرض له القارة الأوروبية هو الأسوأ منذ 500 عام، والذي تحولت فيه الأنهار الأسطورية إلى تيارات ضحلة مما أدى إلى أضرار في توليد الطاقة، وكانت وسائل الإعلام الأوروبية مليئة بالصور الدرامية لأحواض الأنهار الجافة والمكشوفة، وأكبر أنهار أوروبا مثل «الراين» و«بو» و«لوار» و«الدانوب» والتي عادةً ما تكون ممرات مائية هائلة، لا تبحر من خلالها اليوم حتى القوارب متوسطة الحجم، ومع انخفاض منسوب المياه وظهور بقايا سفن غارقة أطلق عليها بشكل مشؤوم «أحجار الجوع».
وتأتي موجة الجفاف هذا العام في أعقاب موجة حر غير مسبوقة شهدت ارتفاع درجات الحرارة في العديد من البلدان إلى مستويات قياسية، حيث واجهت أوروبا حالات تطرّف مناخية واسعة النطاق لأكثر من ستة أشهر، مع وجود ثلثي القارة في حالة تأهب أو تحذير مما يقلل الشحن الداخلي وإنتاج الكهرباء وعوائد المحاصيل الزراعية.
وفي تقرير شهر أغسطس المنصرم الصادر عن المرصد الأوروبي للجفاف (EDO) الذي تشرف عليه المفوضية الأوروبية، ذكر أن 47% من أوروبا تحت ظروف تحذيرية مع عجز واضح في رطوبة التربة وتأثر الغطاء النباتي جراء ذلك، ناهيك عن مستويات الأنهار المنخفضة القياسية، ويقدّر تحليل جديد أجراه الصندوق العالمي للطبيعة أن 17% من سكان القارة و13% من ناتجها المحلي الإجمالي قد يواجهون مخاطر ندرة كبيرة في المياه بحلول عام 2050، وذلك ما لم يتم اتخاذ إجراءات عاجلة من قبل الحكومات والشركات لتعزيز مرونة المجتمعات والاقتصادات، ولا سيما من خلال الحلول المستندة إلى الطبيعة.
الجفاف في أوروبا لا ينبغي أن يصدم أحداً، فقد أشارت خرائط مخاطر المياه منذ فترة طويلة إلى تفاقم ندرة المياه في جميع أنحاء القارة، وسيتأثر أكثر من 80% من السكان في بعض الدول الأوروبية بندرة المياه بحلول 2050، وستكون الأنهار الصحية مفتاح بناء القدرة على الصمود والتكيّف مع آثار تغير المناخ، لكن 60% من أنهار أوروبا غير صحية حالياً، على الرغم من الالتزام القانوني لتوجيهات إطار عمل المياه بالاتحاد الأوروبي بحماية واستعادة أجسام المياه العذبة في أوروبا وضمان تحقيقها جميعاً في وضع جيد، ولكن الواقع لا يعكس الالتزام، وقد عانت كذلك المحاصيل الصيفية، حيث من المقرر أن تنخفض محاصيل الذرة من الحبوب في عام 2022 بنسبة 16% عن متوسط السنوات الخمس السابقة، ومن المتوقع أن تنخفض محاصيل فول الصويا وعبّاد الشمس بنسبة 15% و12% على التوالي وذلك كمثال لما سيحدث للمحاصيل الزراعية.
كما تضرّر توليد الطاقة الكهرومائية، بما يؤثر على منتجي الطاقة الآخرين بسبب نقص المياه لتغذية أنظمة التبريد، وبدوره أدى انخفاض مستويات المياه إلى إعاقة الشحن الداخلي، كما هو الحال على طول نهر «الراين» حيث أثّر انخفاض أحمال الشحن على نقل الفحم والنفط، ومن جهة أخرى اضطرت الحكومة الفرنسية إلى إمداد أكثر من 100 قرية بمياه الشرب الصالحة عبر صهاريج نقل عملاقة، وما يقارب من 90% من المساحة الجغرافية في سويسرا وفرنسا، وحوالي 83% في ألمانيا، وما يقرب من 75% في إيطاليا تواجه الجفاف الزراعي، بينما تهدر أوروبا حالياً ما بين 20 و40 بالمائة من مصادر المياه المتاحة، ولم يعد الجفاف مقصوراً على جنوب أوروبا ولكنه ينتشر بسرعة إلى أجزاء أخرى من الكتلة المكونة من 27 دولة.
* كاتب وباحث إماراتي متخصص في التعايش السلمي وحوار الثقافات