بمقارنة إجمالي الناتج القومي لعام 2021 لمجموعة دول الاتحاد الأوروبي، كان 17.09 تريليون دولار، في حين قارب إجمالي الناتج القومي للولايات المتحدة 23 تريليون دولار (بحسب الموقع الرسمي للبنك الدولي)، إلا أن أوروبا فشلت في تمثيل ثقلها الاقتصادي سياسياً وذلك لفشلها في التصالح مع تاريخها الخاص والعام، لدرجة أن تسبب ذلك في تهميش القيمة السياسية للموقف الأوروبي (الملف الإيراني/ الأزمة الأوكرانية/ أمن حوض المتوسط).

أزمة الليبرالية الاجتماعية الأوروبية الحديثة والمرفهة، هي استمراؤها لأمن واستقرار وفرتهما الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لذلك تأصلت القناعة بالدبلوماسية الناعمة لدى شعب البحبوحة في إدارة الأزمات ما دام الأخ الأكبر مستعداً للتدخل الخشن، لذلك نحن نجدها متخبطة في تحديد سقوف دبلوماسيتها في احتواء الأزمات أو الاستباق في إدارتها.

فالأجندات الحزبية قصيرة الأجل مُقدمة على أخرى تمثل أولويات أوروبية. ولنأخذ الملف الليبي على سبيل المثال، فإيطاليا ضمن ترويكا صينية روسية وأخرى تركية أميركية، ترى في نفسها الوصي التاريخي على ليبيا، رغم ما تمثله الجغرافيا الليبية الفاشلة من تهديد لأمن أوروبا، وترى في موقف مناهضيها (فرنسا تحديداً) أنه «نكاية فيها» كما جاء على لسان رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني في خطاب النصر.

أبلغ صور المهادنة للشعبوية الليبرالية تَمثل في موقفين عَبر عنهما جوزيب بوريل، الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي، الأول ووسط ذهول المجتمع الدولي، طلبه التحقق من تزويد إيران روسيا بطائرات مسيرة انتحارية من نوع (شاهدـ136)، استخدمتها الأخيرة في استهداف بنى تحتية وتجمعات سكنية أوكرانية، ونتجت عنها خسائر مادية وبشرية. ثانيهما وصفه أوروبا بالحديقة وبقية العالم بالأدغال، وذلك ضمن كلمة ألقاها في افتتاح الأكاديمية الدبلوماسية الأوروبية.

إلا أن أوروبا اضطرت للاعتذار لاحقاً عن «الأدغال» والتخلي عن مهادنة ليبرالي البحبوحة وفرض عقوبات على إيران. وبالعودة لكلمة «بوريل» في افتتاح الأكاديمية «أوروبا حديقة، لقد بنينا حديقة، وأفضل مزيج من الحرية السياسية والرخاء الاقتصادي والترابط الاجتماعي استطاعت البشرية أن تبنيه، أما بقية العالم فهو أدغال».

وبوريل محق في ما أدعاه، إلا أن تصوره الرغبي والفاقد للاتصال بالواقع، تناسى أن مواطنيه الآن يقومون بقطع أشجار حدائق أوروبا للتحصل على بعض الدفء بعد أن خاف قادة أوروبا من محاسبتهم بعد الأزمة من ارتفاع الدين العام، في حين يقتتلون فيما بينهم على إمدادات الغاز في مشهد لا يمت بصلة لحديقة بوريل.

اليوم يجب أن تتحسر أوروبا على أوروبا أنجيلا ميركل، والتي قدمت أنموذجاً في القيادة السياسية والمسؤولية الدولية، فقد استقبلت لاجئ قوارب الموت حين تحفظت أوروبا، ولم تميز بين ألماني وأوروبي في جائحة كوفيد-19، ولم تتردد ولو للحظة في استقبال نازحي أوكرانيا نتيجة غزو بلادهم.

أنجيلا ميركل مثلت ومضة أوروبية سرعان ما انطفأت على محراب الليبرالية الأوروبية الرخوة، واليوم نجدهم يجتهدون في الاتصال بالواقع وخصوصاً تقييم استراتيجيات الطاقة Energy Strategy's من منطلق ما أفضت إليه الأزمة الأوكرانية، لا ما مثلته مخرجات ساستها المترفين، وأولها تمديد العمل بمحطات الطاقة النووية في ألمانيا وفرنسا، فهذا ليس زمن قادة البحبوحة والكوفي لاتيه.

*كاتب بحريني