في عملي الصحفي، في البدايات تحديداً، كنت أحب المقابلات، لكن من بين المقابلات التي أجريتها وعلى تنوعها لم أحب مقابلات أهل الفن، ولذلك فإن في رصيدي المهني مقابلتين فنيتين لا غير، وكلتاهما من أجمل الذكريات وأحبها إلى قلبي. في مطلع الألفية، كلفني رئيس تحرير موقع عربي كنت أعمل به في العاصمة الأردنية، بأن أتوجه صباح اليوم التالي إلى أحد الفنادق لإجراء مقابلة مع الفنان الراحل نور الشريف.

كان الموعد محدداً مسبقاً مع نور الشريف، فكنت ممتعضاً من هذا التكليف في ذروة غرفة الأخبار، حين كانت الانتفاضة الفلسطينية عنوان الشرق الأوسط كله.. حملت أوراقي وجهازاً، ولم يمر وقت طويل حتى التقيت بالفنان الذي دعاني لأطول جلسة شاي عرفتها في حياتي!

كان فيلم «المصير» لا يزال يُعرض وضجته وصلت إلى «كان» الفرنسية، وكان نور الشريف لا يزال متقمصاً بروحه كل «ابن رشد».. تحدث، رحمه الله، عن حديث الساعة وقتها والذي كان «العولمة»، تحدث لوقت طويل جداً حتى إنني نسيت كثيراً أن أدون كل شيء، وقد أخذني حديثه الموسوعي الممتع! كان كريماً في حديثه، ومتواضعاً بهيبة الواثق، وكان على كل نجوميته يخاطبني طوال الوقت بلقب أستاذ!

وأنا في حرج من اللقب أمامه. لم يتحدث في السفاسف، وكانت لغته العربية سليمة وحتى لهجته المصرية العامية كان يطعمها بمصطلحات قوية تعكس سعة معرفته. أما اللقاء الثاني، وللمصادفة كان في الصيف نفسه وللجهة الصحفية نفسها، أجريته مع الفنان العراقي «المعتق» إلهام المدفعي، وهو الذي استحضر تراث الموسيقى من أيام «آشور» ليعزفها برفقة الغيتار فأذهل كل محبي الموسيقى.

في مكتبه في العاصمة الأردنية أيضاً، أخذني الرجل بحديث ذكريات، كان من أجمل ما فيه حديثه عن الشاعر الراحل نزار قباني، الذي كان صديقاً لبيت المدفعي، كما تصادف أن يكون منزلهم في بغداد مجاوراً لمنزل آل الراوي، أهل بلقيس، حبيبة نزار وزوجته ثم فقيدته ووجعه فيما بعد. تحدث المدفعي.. تحدث بمعرفة واسعة عن الموسيقى منذ إسحاق الموصلي، وزرياب، والرازي، حتى بليغ حمدي، كان موسوعة في التراث الغنائي الشرقي والغربي معاً.

واستطراداً في السياق ذاته، أنا من جيل كان حظه وافراً ليتابع سيد المقابلات المهذبة المصري الراحل طارق حبيب، والسوري مروان صواف، أطال الله في عمره، وفي مخزون ذاكرة اليوتيوب الإنترنتية أرشيف لهما ولكثيرين من صحافة الزمن المحترم في المقابلات الفنية.

وفي اليوتيوب ذاته أحب كثيراً أن أعود لمشاهدة اللقاء «بالأبيض والأسود» بين الراحلين الكبيرين عبدالحليم حافظ ونزار قباني، وهما يتجادلان بحوار مدهش حول قصيدة وأغنية قارئة الفنجان. وفي الذاكرة الإنترنتية أيضاً مقابلة بين الفنان الكوميدي الضيف أحمد والأديب الكبير ثروت أباظة، كل ما في حوارهما كان ثروة معرفية وأدبية هائلة.

هل تساءلتم: ما هي مناسبة الحديث؟.. أتابع منذ فترة مقابلات فنية مع «فنانين» من هذا الزمن الصعب والعصي على الفهم، وأتأسف لحال صناعة الترفيه التي صار سقفها معرفة «اللون المفضل ونوع المعكرونة المفضلة» للفنان الذي غالباً يهرف بما لا يعرف، ويثرثر بلا معنى!

* كاتب أردني مقيم في بلجيكا.