يعكس «بيت العائلة الإبراهيمية»، طبيعة دولة الإمارات العربية المتحدة، إذ تمثل قيمة التسامح عنصراً مستقراً وممتداً في رؤيتها للحاضر والمستقبل، وهذا ما جعلها نموذجاً للتعايش في المنطقة والعالم، فالإمارات دولة تحترم التعدد الديني والعرقي والمذهبي وتجرّم التمييز والكراهية والعنصرية. ففي الإمارات يعيش أكثر من 200 جنسية في وئام وسلام، ويتمتعون جميعاً بالمساواة، وفرص العيش الكريم والحياة السعيدة، كما توجد 76 دار عبادة لغير المسلمين، تبرعت الإمارات بأراضٍ لإقامة بعضها.
هذه الطبيعة التسامحية المتفردة أكدها صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، بقوله: «إن الكون يتسع للجميع، والتنوُّع مصدر للثراء، وليس سبباً للصراع أو الاقتتال، لقد خلقنا الله متنوِّعين، لكي يُكمِّل بعضنا بعضاً، ونتعارف ونتعاون من أجل الخير والسلام والنماء لنا جميعاً، وهذه هي الرسالة التي تريد دولة الإمارات العربية المتحدة أن توجِّهها إلى العالم كله من خلال إعلائها رايةَ التسامح، وعملها المستمر من أجل تنسيق الجهود والمبادرات والخطط التي تكرِّس التسامح بدلاً من الكراهية، والتعايش بدلاً من الصراع، والوسطية بدلاً من التعصب والغلوِّ، والانفتاح بدلاً من الانغلاق، والحوار بدلاً من الخلاف».
ويُشكِّل «بيت العائلة الإبراهيمية» مجتمعاً مشتركاً تتعزز فيه ممارسات تبادل الحوار والأفكار بين أتباع الديانات السماوية الثلاث، ويعد ترجمة لوثيقة الأخوة الإنسانية، خاصةً بندها الذي يؤكد أن «الحوار والتفاهم ونشر ثقافة التسامح وقبول الآخر والتعايش بين الناس، من شأنه أن يسهم في احتواء كثير من المشكلات الاجتماعية والسياسية».
وقد أُعلن عن إنشاء هذا البيت يوم 5 فبراير 2019م، غداة توقيع قداسة البابا فرنسيس، بابا الكنيسة الكاثوليكية، وفضيلة الإمام الأكبر، الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، على وثيقة الأخوة الإنسانية، في أبوظبي بتاريخ 4 فبراير 2019م.

ويأتي «بيت العائلة الإبراهيمية» المقرر افتتاحه قريباً، والجاري استكمال إنشائه بجزيرة السعديات بأبوظبي، في سياق سياسي إنساني إماراتي خالص، يربط بين التسامح والأخوة الإنسانية من ناحية، وبين التقدم الاقتصادي والاجتماعي للدول والشعوب، من ناحية أخرى، ويعكس طبيعة المجتمع الإماراتي المتسامح بفضل فطرته السوية والمكتسب الإنساني المتراكم من «إرث زايد» على صعيد التعايش السلمي والتواصل الحضاري، وهذا ما يميز «بيت العائلة الإبراهيمية» عن أي مبادرات أخرى، من مبادرات الحوار بين الأديان وغيرها.

إيمان بقيم التآخي
قد يتبادر لأذهان البعض أن إنشاء «بيت العائلة الإبراهيمية» لا ينفصل عن سياقٍ دولي تُعد الولايات المتحدة وهيئة الأمم المتحدة من أهم أطرافه، غير أن هذا القول ينطوي على نصف الحقيقة، ويتجاهل نصفها الآخر المتمثل في أن دولة الإمارات تلعب دوراً مستقلاً ومحورياً في هذا السياق الدولي، من حيث تحديد الأهداف وتوفير الوسائل اللازمة لتحقيقها، فهي تتحرك من موقع الفاعل المؤثر، وهذه حقيقة يعلمها القاصي والداني.

وما يؤكد أن «بيت العائلة الإبراهيمية» حراك إماراتي خالص نابع من الثقافة الإماراتية المؤمنة بقيم التآخي هو أن دولة الإمارات اعتادت منذ تأسيسها عام 1971م، إلى الآن، على المبادرة والريادة في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، خاصةً على صعيد الأعمال الإنسانية الكبرى، التي تنطوي على قيم التعايش السلمي، مستفيدةً من خبرتها في إقامة الاتحاد، ولم تكن سياستها في يومٍ من الأيام رد فعل للآخرين، أو أداة وظيفية لخدمة مصالح استراتيجية خاصة بأي فاعل دولي، فـ «بيت العائلة الإبراهيمية» يأتي في إطار السياسة الإماراتية الحرة والمستقلة، وفي سياق رؤية إماراتية مستدامة في التسامح والأخوة الإنسانية يستلهمها الآخرون ويقتدون بها ويحتشدون طواعيةً تحت مظلتها، بما فيهم الدول الكبرى، وذلك لما في هذه الرؤية من خير للبشرية كافة وللعالم أجمع.
وسوف يعلم العالم أجمع، عاجلاً أو آجلاً، أن «بيت العائلة الإبراهيمية» رسالة إنسانية سامية يهديها الشعب الإماراتي للعالم كله، ويهدف من ورائها إلى إيجاد مجتمعات متصالحة لا متخاصمة، متسالمة لا متحاربة، متحابة لا متباغضة، متعاونة لا متشاحنة، ومتقاربة لا متباعدة، من خلال تكريس ثقافة احترام التنوع الديني وخصوصياته، والاستفادة من إيجابيات هذا التنوع، ومعالجة أسباب سلبياته وتلافيها، وهذه مهمة كبرى تنوء بالجبال، وعلى الرغم من ذلك حمل سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، هو وإخوانه أصحاب السمو حكام الإمارات، هذه الأمانة، عن طيب خاطر، لكونها رسالة سلام عالمية، ويؤدونها على أكمل وجه، وبما لا يمس الهوية المتفردة لكل دين سماوي، ودون إذابة الفوارق والاختلافات بين الأديان السماوية الثلاثة، وكذلك بما لا يخل بالثوابت الوطنية لدولة الإمارات العربية المتحدة، أو بمواقفها الثابتة تجاه القضايا العربية.

أهداف إنسانية نبيلة
وجاء تصميم «بيت العائلة الإبراهيمية» الفريد الذي أبدعه المعماري العالمي الشهير، السير ديفيد أدجايي أوبي، مصمم المتحف الوطني للتاريخ والثقافة الأميركية- الأفريقية بالعاصمة واشنطن، ليعكس هذه الأهداف الإنسانية النبيلة، إذ تشبه مبانيه الثلاثة ثلاث أشجار مختلفة في بوتقةٍ واحدة، تصل جميعها إلى الضوء نفسه الذي يمنحها الحياة، وذلك لتذكير البشرية كافة بأن الديانات الثلاث: الإسلام والمسيحية واليهودية، أصلها واحد، وهدفها الخير للبشرية.
وينبثق التصميم من روح وثيقة «الأخوة الإنسانية» التي هي مبادرة إماراتية خالصة، ويضم البيت مسجداً للمسلمين، وكنيسة للمسيحيين وكنيساً لليهود، خُصص لكل منها مبنى منفصل، وحديقة، بالإضافة إلى متحف ثقافي سيكون متاحاً لجميع الزوار، ويعكس هذا التصميم حرص القيادة الرشيدة في الإمارات، على احترام خصوصية كل دين.
وينبثق «بيت العائلة الإبراهيمية» من «وثيقة الأخوة الإنسانية»، ويحظى منذ الإعلان عنه بمتابعة مستمرة من البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، والدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، وتشرف عليه اللجنة العليا للأخوة الإنسانية، ويتميز تصميمه بعمارة هندسية بديعة ومتفردة تتكون من ثلاثة مكعبات تستحضر ملامح العمارة التقليدية الخاصة بالديانات الثلاث.

وشارك في مراحل تصميم هذا البيت أعضاء من المجتمعات الدينية من جميع أنحاء العالم لضمان اتساقه مع تعاليم ومتطلبات كل دين، وضمان الحفاظ على «خصوصيات الأديان الثلاثة» و«حرية الاعتقاد» لا «دمج المعتقدات». ويأتي إطلاق اسم الدكتور أحمد الطيب على المسجد، واسم البابا فرنسيس على الكنيسة، واسم موسى بن ميمون على الكنيس اليهودي، من باب العرفان والامتنان بأدوارهم ومواقفهم الداعمة للأخوة الإنسانية.

التعارف والتفاهم والتعايش
الهدف من «بيت العائلة الإبراهيمية» يتماشى مع صحيح الدين الإسلامي وقيمه النبيلة، فالله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، «سورة الحجرات: الآية 13»، وتؤكد هذه الآية الكريمة أن الاختلاف والتعدد والتنوع بين البشر هو الأصل والأساس، وأن الهدف الأساسي من ذلك هو التعارف وما يتضمنه من تعاون وتواصل وتفاهم وتعايش، ويأتي «بيت العائلة الإبراهيمية» لتأكيد هذا الهدف، وإبراز القيم المشتركة بين الأديان الثلاثة، وتجذير قيم الاحترام المتبادل بين أتباعها. ومن المقرر أن يكون هذا البيت معلماً حضارياً ومركزاً للحوار والتفاهم بين الديانات الثلاث والأديان والمعتقدات جميعاً، ويؤدي دوره من خلال برامج وفعاليات يومية ومؤتمرات وقمم دولية تعزز من ممارسات تبادل الحوار والأفكار بين أتباع الأديان السماوية الثلاثة.
ولن تنال الانتقادات السخيفة والاتهامات المكذوبة من سمو الهدف، ونبل القصد، من إقامة «بيت العائلة الإبراهيمية»، بوصفه مساهمة خالصة لتحقيق السلام والوئام للعالم كله، ولن يضير الإمارات ما تواجهه من انتقادات بسببه.
ولا ينبغي لها أن تأبه بتلك الانتقادات لسببين، أولهما، أنها تأتي من صاحب مصلحة في تكريس رؤية منغلقة ومتعصبة للدين تتنافى مع جوهره ورسالته، ويعمل على توظيفها لخدمة أغراض ومطامع شخصية، غير مدرك لفداحة الإساءة التي تلحق بالدين من جراء أعماله المصلحية وممارساته الدموية.
وثانيهما، أننا على ثقة تامة بأن التاريخ كفيل بكشف الحقيقة للجميع، وتبيان أن هذه الانتقادات مبنية على قاعدة الرجم بالغيب ومبنية على تُرهات لا معلومات.
هناك من يربط بين «بيت العائلة الإبراهيمية» ومخططات تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية. وهذا ضرب آخر من الافتراءات التي تفضحها مواقف الإمارات الثابتة الداعمة للشعب الفلسطيني، وحقوقه المشروعة وقضيته العادلة.
ولم تتغير هذه المواقف بعد الإعلان عن إنشاء «بيت العائلة الإبراهيمية»، فهي مواقف ثابتة وراسخة وممتدة منذ تأسيس الاتحاد عام 1971م وستظل على ذلك الثبات حتى إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية يلبي طموحات الشعب الفلسطيني.
فبعد إعلان الدولة عن إنشاء البيت في الخامس من فبراير 2019م، دعت الإمارات، خلال جلسة للجمعية العامة للأمم المتحدة، في الثالث من ديسمبر 2020م إلى تكثيف العمل لإنهاء الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، وإيجاد حلٍ يلبي التطلعات المشروعة للشعب الفلسطيني.
إضافة إلى هذه الجهود، أكدت دولة الإمارات خلال المناقشة ربع السنوية المفتوحة لمجلس الأمن حول «الحالة في الشرق الأوسط، بما في ذلك القضية الفلسطينية»، والتي عقدت في التاسع عشر من أكتوبر 2021م، ضرورة الحفاظ على الوضع القانوني والتاريخي القائم في مدينة القدس، وطالبت بوقف الإجراءات كافة والممارسات الإسرائيلية غير الشرعية في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها بناء وتوسيع المستوطنات، ومصادرة وهدم الممتلكات، وشددت على حل الدولتين للقضية.

أرضية مشتركة
إنّ مبادرة «بيت العائلة الإبراهيمية»، تعكس استراتيجية دولة الإمارات العربية المتحدة للتعامل مع إشكالية تتعلق بالمنطقة العربية والعالم أجمع، منذ نشأة الدول الوطنية الحديثة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، نتيجة لتفكك الدولة العثمانية.
والبحث عن أرضية مشتركة لأتباع الديانات الإبراهيمية الثلاث، لاسيما في ظل تصاعد التيارات الدينية المتشددة، والميل إلى تفسير الصراعات من منظور ديني.
لذا فإن دولة الإمارات تنقل رسالة للعالم، تبرز الأصل المشترك للرسالات السماوية الثلاث التي يدين بها غالبية أبناء المنطقة، وهذه الرسالة في حال تحقيق أهدافها، ستنقل العالم كله، وفي القلب منه منطقة الشرق الأوسط، من الحرب إلى السلام، ومن الصراع إلى التعاون، ومن نوازع التعصب والكراهية التي يتاجر بها «المتطرفون» إلى نوازع المحبة والتآخي والتعايش السلمي والأخوة الإنسانية والتسامح التي بها تتحول علاقات الأمم والدول والشعوب إلى الأفضل، وتتحول بها الحياة إلى السعادة، بدلاً عن الشقاء الذي يعيشه بعض شعوب دول المنطقة وغيرها من مناطق العالم الآن.
* كاتب إماراتي