بقيت الفلسفةُ محلَ هجومٍ مؤسس بسبب الإرث التاريخي لها، دائماً يتم تداول مثالب الفلسفة بشكلٍ خاص عند البحث في مسائل الاعتقاد، ذلك أن الكثير من المسائل المتعلقة بالأسماء والصفات، أو التصورات عن الخير والشر بقيت متأرجحةً ضمن مجالين، أولهما: الإيمان التسليمي، مع المزج بين الدليل وما يكفي من الاستدلال العقلي، والثاني: العقلاني البحت والذي مثلته بفترةٍ مبكرة مؤلفات المعتزلة. تمت مواجهة الفلسفة على مراحل متعددة، ولكنها أخذت شكلها الفاقع مع أبي حامد الغزالي الذي عاش حالةً من القلق والعذاب بحثاً عن الجواب، يبرز ذلك بوضوح في كتابه: «المنقذ من الضلال» وبالرغم من ثمرته المعادية للفلسفة والغوص فيها، فإن لوعة البحث عن الحقيقة أكسبت الكتيب الشهير شكلاً صوفياً، وبعداً جمالياً، على عكس كتابه القاسي: «تهافت الفلاسفة» الذي تبنتْه مدارس معادية للفلسفة وأخذته حصناً منيعاً لما يتمتع به من فهم عالٍ غير مألوف لديهم للمنطق والفلسفة وخرائطها.

بقيت الكتب الفلسفية حاضرةً والطرح الفلسفي قوياً في السعودية، ولكنه لم يكن ضمن مجالاتٍ مؤسسية، حين تدلف إلى المكتبات العامة بجميع أنحاء المملكة تعثر بالطبع على كتب لأرسطو وأفلاطون وهيراقليطس وبيكون وديكارت وكانط وهيغل ونيتشه وهيدغر وحتى المتأخرين مثل جيل دلوز فوكو إدغار موران. حتى قامت محاولات شبابية في وسط السعودية وشرقها وغربها لفتح تخصص فلسفي داخل الأندية الأدبية، وقد اعترفت وزارة الإعلام بها وتم الترخيص لها لتكون تلك الأنشطة لها السبق في تحويل النقاش الخفي في قاعات الناس وبيوتهم لينطلق من المؤسسات الثقافية نفسها، وليكون النشاط له طابعه الرسمي وشكله العلني.

لم تكن الفلسفة مهملة في المؤسسات بالمعنى المطلق، لكنها تحضر مع ما يتقاطع معها من مجالات، تحضر في أقسام اللغة عند الحديث عن تطور اللغة، والنحو التوليدي، والبنيوية، تحضر مع الشعر وتداخله مع الفلسفة منذ أفلاطون وحتى هيدغر، تتداول مفاهيم فلسفية في أقسام الأدب والنقد والنظرية، كذلك الأمر في الكليات الشرعية يتداول المنطق عند الشرح للقواعد الشرعية المنطقية، يحضر اسم أرسطو في الحديث عن المنطق الصوري، والمسائل العقائدية، تجذب الكثير من الأسس الفلسفية والكتابات المتخصصة، لكنها استدعاءات تكون غالباً لنقض الفلسفة ومضمونها، من دون الرغبة في فهمها أو النزول عند أبرز مضامينها.

لم تكن الفلسفة ممنوعةً بشكلٍ رسمي بالسعودية، لا يوجد نظام يمنع تداول كتب الفلاسفة، ولا يمكن لأحدٍ الزعم بأن الفلسفة ممنوعة بشكلٍ رسمي، لكن الأقرب أنها لم تقرر وذلك لعدم توافر الظروف الموضوعية والواقعية التي نعيشها الآن، حيث التنمية في كل المجالات، وبرأيي أن ترسيخ تدريس الفلسفة شرط أساسي للتنمية وللاستثمار بالإنسان، فالفلسفة لها دور استثنائي في كونها «مضادة للأيديولوجيا» مع ترسيخها كمنهاج يمكن للعقل أن يكون أقدر على الممارسة الفكرية والسجال المنطقي المستند إلى العقل فقط ومجموع الفضاءات التي يختارها المتفلسف أياً كان منطلقه.
باختصار، تدريس الفلسفة ضروري لصقل عقل الفرد ليكون أكثر قوةً في مجتمعه، ووجوده، ومحيطه، وعلاقاته.
* كاتب سعودي