منذ أن نجحت انتفاضة السودانيين التي جرت في أواخر 2018 أوائل 2019، والسودان لا يزال يعيش أزمات متصلة على الصعد كافة سياسية واقتصادية واجتماعية وتموينية ومالية، ولا يبدو أن لأي من هذه المشاكل والأزمات حلولاً جاهزةً أو انقشاع يلوح في الأفق.
وبرغم من أن المشكل الاقتصادي هو أساس البلاء ومصدر الشرور، إلا أن الأزمة السياسية هي التي غالباً ما تطفو على السطح وتزيد من تعقيدات وصعوبات المشاكل الأخرى.
وبين فترة وأخرى تتنادى العديد من الأطراف السودانية للتجمع والتشاور والنقاش بحثاً عن الحلول الناجعة للمشكلة السياسية، ولكن لا يبدو حتى الآن وجود بارقة أمل لحلها، وآخر مظاهر تلك المناداة قيام رئيس مجلس السيادة الفريق عبدالفتاح البرهان بقيادة وساطة للتقريب بين وجهات النظر والمواقف السياسية بين أطراف سياسية عدة في البلاد لإيجاد حل سياسي من نوع ما للأزمة الدائرة في البلاد، لكن دون جدوى، خاصة ما قام به مؤخراً من وساطة بين مكونات من يسمون أنفسهم بالحرية والتغيير الثلاثة وهي المجلس المركزي والقوى الوطنية والتكتل الديمقراطي.
ما يحدث في هذا البلد العريق يثير سؤالاً مهماً هو:
إلى أين يسير السودان بعد كل الذي مر به حتى الآن؟ والحقيقة هي أنه ليس بالإمكان الإجابة على هذا السؤال، لكن ما يمكن قوله هو أنه يسير عبر مسارات التاريخ لما يقارب المائتي عام من سودان الماضي إلى سودان الحاضر، وهو بالتأكيد يسير نحو سودان المستقبل، فهذا اتجاه مؤكد مثل الزمن نفسه.
ولأننا نعرف الكثير عن الماضي والحاضر فيما يتعلق بهذه الدولة العربية الواقعة في أفريقيا والعملاقة حجماً ومساحة وإمكانيات كامنة لم تستثمر بعد بالشكل الصحيح، فإن السؤال المهم الذي يواجهنا الآن هو:
ما الذي يخبئه الغد للسودان على ضوء ما يمر به من إرهاصات وتقلبات على مدى السنوات الأخيرة؟
ومن الواضح جداً أن الإجابة على الأسئلة المطروحة بهذا الشأن ليست جاهزة على الفور، وعلى المرء أن يبحث عنها بعناء على كافة الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية والثقافية والعلاقات الخارجية وغيرها، إن المصادر التي لدينا لمثل هذا البحث هي معرفتنا بالماضي والحاضر، وحتى في هذه الحالة نحن لا نستطيع أن ندعي بأن مثل هذا البحث من شأنه أن يوصلنا إلى إجابات كافية وشافية في دولة تتقلب فيها الأمور فجأة وتتغير فيها الأحداث بين لحظة وأخرى عجلة متسارعة ودون سابق إنذار.
ويعود مثل هذا الأمر إلى التجربة السودانية ذاتها، فهي تجربة غير مستقرة وغير جامعة أو موحدة منذ البداية، لكنها تجربة خاصة وفريدة بالسودان وحده وبشعبه وبتركيبته الاجتماعية والسياسية وبمكوناته الاقتصادية والديموغرافية.
السودانيون مختلفون فيما بينهم وفي نظرتهم إلى القطر الذي ينتمون إليه ويسمونه بوطنهم.
وتعتمد تلك النظرة لدى الفرد السوداني على مصادر أساسية ينطلق منها الفرد كالجماعة والعشيرة والقبيلة والطائفة والعرق والمنطقة، أو أي انتماء آخر، فهي كثيرة وجميعها مدعاة للاختلاف والفرقة.
ومن تجربتي الشخصية الطويلة مع السودان والسودانيين أخرج بفكرة وجود تصنيفات لهم من حيث نظرتهم إلى ما يجري في بلادهم، فهناك الذين لديهم نظرة إيجابية انطلاقاً من تجاربهم الجيدة مع الماضي والحاضر ويرون من خلالها المستقبل جيداً.
وفي المقابل يوجد أولئك الذين لديهم تجارب سلبية ولا يرون أمامهم سوى المسالك التي ولجها السودان وبأنها خاطئة جميعها ويجب إصلاحها.
ويبقى النوع الثالث الذي يرى بأن السودان يسير وكفى بغض النظر عن نتائج ذلك المسار أكانت إيجابية أو سلبية.
وهنا ليس مهماً أي من الأنواع الثلاثة التي يقع فيها المواطن، فالواقع يبقى أن السودان كقطر مستقل لم يصبح مثالياً أو نموذجياً، والأحداث فيه دفعته نحو أن يكون دائم التمييز بين مواطنيه، كريمٌ تجاه بعضهم ومقتِّرٌ تجاه آخرين، ويتوقف الأمر على من يجلسون في كراسي السلطة، فالجميع الذين مارسوها فعلياً قاموا بذلك.
* كاتب إماراتي