بعد مضي عدة سنوات على بدء الإصلاحات المالية في دول مجلس التعاون الخليجي، أصبح بالإمكان القيام بتقييم أولي لهذه الإصلاحات لمعرفة مدى تأثيراتها وأهميتها للمستقبل الاقتصادي لهذه الدول، في ظل متغيرات دولية لم تستثن أي منطقة في العالم، حيث أشادت العديد من المنظمات الدولية المتخصصة بهذه التوجهات، وكان أحدث هذه الإشادات تصريح نائب رئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والذي دعا فيه دول المنطقة للحذو حذو دول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات، في آلية الإصلاحات الاقتصادية، مضيفاً أن الدول الخليجية عملت على إجراء إصلاحات عميقة وهيكلية.
والحقيقة أن هذه الإصلاحات أثارت خلال السنوات القليلة الماضية جدلاً خليجياً محلياً أدى إلى تفاوت تنفيذها بين دولة وأخرى، فبعض الدول، كالإمارات والسعودية، مضت قدماً في تطبيقها، مما ساهم في زيادة معدلات النمو وتوسع قطاعات غير نفطية، وهو ما أكد عليه البنك الدولي أيضاً مشيراً إلى أن «النموذجين السعودي والإماراتي يقدمان مثالاً لبلدان المنطقة في كيفية تطوير الاقتصاد». وهذا صحيح تماماً، إذ أن النمط التنموي السابق المعتمد على عائدات النفط بصورة شبه كاملة، بما في ذلك تمويل الموازنات السنوية والإنفاق بكافة أشكاله، استنفذ إمكانياته ولم يعد مجدياً في ظل المتغيرات الجارية، وبالأخص في مجال الطاقة، وقد اتضح أن الارتهان إلى ذلك النموذج سيشكل تحدياً كبيراً في السنوات القادمة.
ولا يمكن إجراء تقييم عام لكافة دول المجلس فيما يتعلق بالإصلاحات المالية، بسبب تفاوتها في الأخذ بالإصلاحات الجديدة، فالدول التي قطعت شوطاً في إصلاحاتها تحقق أعلى معدلات النمو، ليس في المنطقة فحسب وإنما على الصعيد العالمي أيضاً، وقد وصل فيها معدل النمو السنوي إلى 8.5%، كما أن اقتصاداتها أصبحت أكثر تنوعاً، وكذلك موازناتها السنوية. لذا تخطط الإمارات، على سبيل المثال، لإصدار ميزانية اتحادية بتمويل ذاتي بعيداً عن النفط، وهي تحقق تقدماً كبيراً في هذا الاتجاه، في حين ارتفعت بصورة ملحوظة مساهمة القطاعات غير النفطية في الموازنة السعودية.
أما الدول التي بقيت الإصلاحات فيها محدودةً أو شبه معدومة، فما زالت تتعامل مالياً بالنمط القديم المعتمد على عائدات النفط والغاز، إذ أن بعضها يمكنه السير في هذا الاتجاه إلى حين بفضل العائدات الهائلة لصادراته من الهيدروكربون، في حين بدأت بوادر تحديات اقتصادية ومالية لدى دول أخرى لم تتمكن من مواصلة السير هذا الاتجاه.
وهناك مجموعة ثالثة قامت ببعض الإصلاحات المفيدة، إلا أن قدراتها المالية وضعف الإدارة الاقتصادية حدَّ من التأثيرات المترتبة على هذا الإصلاحات، غير أن ذلك لا يمنع من وضع سياسات تلائم بين الإصلاحات المطلوبة وبين المحافظة على مستويات المعيشة، وهذا أمر متاح في ظل الشفافية المالية، على أن يتزامن مع برامج للتنوع الاقتصادي.
إذن تمر دول مجلس التعاون الخليجي بمرحلة تحول من نمط التنمية القديم المعتمد كلياً على عائدات النفط إلى نمط جديد يعتمد التنوع الاقتصادي والتنمية المستدامة والاهتمام بالاقتصاد الأخضر والذي حققت فيه دول المجموعة الأولى تقدماً مهماً للغاية.
وتنبغي الإشارة هنا إلى أهمية العمل على تقارب وتكامل التجارب الخليجية وتعميم النماذج الناجحة، إذ أن زيادة التفاوت بين مكونات الاقتصادات الخليجية، ربما تعيق التكامل الاقتصادي من جهة وتؤخر خروج بعض الدول من النمط التنموي القديم من جهة أخرى، مع ما يشكله ذلك من عدم القدرة على التلاؤم مع التحديات المستجدة. 

*خبير ومستشار اقتصادي