قد ينسى البعضُ أن الصين كانت صاحبة حضور دولي مؤثر في السياسة الدولية منذ نجاح ثورة 1949، وقد ينسى البعض أيضاً أن بداية هذا الحضور كانت عسكرية بامتياز، أي بدور الصين الحاسم في مواجهات الحرب الباردة كما حدث من خلال دورها في الحرب الكورية (1950-1953) الذي استعاد التوازن بين الكوريتين بعد أن كادت القوات الأممية بقيادة أميركية أن تصفي كوريا الشمالية، وكذلك دورها المهم في حروب فيتنام التي امتدت بين خمسينيات القرن الماضي ومنتصف سبعينياته. وكان لها في هذه الحروب أيضاً دور أساسي، سواء في التخلص من الاستعمار الفرنسي أو في هزيمة التدخل الأميركي الداعم لنظام فيتنام الجنوبية ضد معارضيه من الشيوعيين. وفي محور آخر من محاور حركة الصين الدولية، ركزت بكين على اكتساب الشرعية الدولية، وقد تحقق لها ما أرادت بقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر 1971 باعتبار الصين الشعبية الممثل الوحيد للصين بعد أن ظلت «الصين الوطنية» (أو جزيرة تايوان) تحتل مقعدَ الصين في الأمم المتحدة حتى ذلك التاريخ. 

كما تُعَد استعادة الوحدة الإقليمية للصين محوراً أساسيًّا في حركتها الدولية، وإن اتبعت في تحقيقه نهجاً سلمياً حتى الآن، وقد تَمَثل في الطريقة التي استردت بها هونج كونج عام 1997 بعد 156عاماً من الاحتلال البريطاني، وعدم استخدامها للقوة المسلحة حتى الآن في استعادة جزيرة تايوان، رغم أن ثمة اعترافاً دولياً بمبدأ «الصين الواحدة».
وعَبْر ما يقرب من ثلاثة أرباع القرن حققت الصين نمواً اقتصادياً مطرداً جعلها الآن القوةَ الاقتصاديةَ الثانيةَ عالمياً، ومكّنها في عام 2013 من إعلان «مبادرة الحزام والطريق» التي تُعَد إطاراً استراتيجياً لحركة الصين الدولية بات يضم قرابة 70 دولةً وحوالي ثلثي سكان العالَم و40٪‏ من الناتج المحلي العالمي.
وقد أظهرت التطوراتُ الأخيرة الخاصة بالحرب الدائرة الآن في أوكرانيا الأهميةَ الفائقةَ للحضور الصيني في الشؤون الدولية، فعلى الرغم من موقف الحياد القانوني الذي تتبعه الصين، فإنها برؤيتها المشتركة مع روسيا للنظام الدولي ورفضها للانخراط في العقوبات عليها واستيعابها جزءاً رئيسياً من فائض الطاقة الروسية نتيجة تراجع اعتماد الدول الأوروبية عليها، فقد شكَّلت دعماً واضحاً للموقف الروسي في الصراع. وفي هذا السياق لوحظ ظهور ملمح جديد للحضور الصيني في الشؤون الدولية، وهو ذلك المتعلق بمحاولة لعب دور الوسيط في الصراعات، كما ظهر من خلال المبادرة الصينية الأخيرة لتسوية الحرب في أوكرانيا التي لم يكن متوقعاً لها النجاح، على ضوء الإدراك الغربي لعدم حيدتها. 

غير أن الصين فاجأت العالَمَ بوساطة ناجحة بين السعودية وإيران، وهي وساطة مهمة لأنها تتعلق بقوتين إقليميتين مؤثرتين، إحداهما على خلاف حاد مع الولايات المتحدة، وبالتالي فكأن هذه الوساطة الناجحة بمثابة رسالة صينية مهمة مفادها القدرة على اللعب في ملعب توجد فيه الولايات المتحدة وعلى نحو يتحدى السياسة الأميركية نفسها. وللصين مصلحة حيوية في إنجاح هذه الوساطة لأنها بين طرفين ترتبط مع كل منهما بعلاقات وثيقة، لذا فإن الخلافَ بينهما يمثل إرباكاً للصين نفسها، وبالتالي فهذه الوساطة الناجحة قد تكون مؤشراً على دور دبلوماسي صيني متصاعد في تسوية النزاعات الدولية، ومَن يدري فقد يكون المؤشر التالي ولو بعد حين حضور عسكري صيني في التفاعلات الدولية.

*أستاذ العلوم السياسية -جامعة القاهرة