قبل أكثر من خمسة عشر عاماً كنت في جدة، دعاني صديق قديم أصيل، وقال لي: إن لديه مجموعة من الفنانين والمثقفين، كان أكبرهم شخصاً عفيف اللسان، دمث الأخلاق في السبعين من عمره، ملامحه لا تشي إلا بأن منْ أمامك هو من آخر متصوفة الدهر. لا يعزف حين يُطلب منه، وإنما يثب على العود حين يكون فرحاً جذلاً أو حزيناً أسيفاً، فلريشته بالعود طيف مكثف من الذكريات التي آلمته من اليتم إلى الرحلة من اليمن نحو السعودية، إلى قواصم الصعوبات. ولا يهمه من استمع إليه، بل ربما عزف حين يكون البعض مسترسلاً مع فيلم، أو ضائعاً مع جواله، أو متحمساً مع مباراته، لكنه حين يعزف ينصت الجميل لأنه فنان عملاق ليس كأي فنان، إنه الراحل الكبير طاهر حسين الذي غادر دنيانا قبل بضعة أيام عن عمرٍ ناهز التسعين، ترك تجربة خالدة سيذكرها التاريخ.
فنان ومثقف مخضرم، أنتج أعذب الألحان لطلال مداح، ومحمد عبده، وعبدالمجيد عبدالله، ومحمد عمر، وعلي عبدالكريم وهذا مجال فني يعرفه الملحنون وكبار الفنانين بالسعودية.
كان وفياً حفياً وكريماً سخياً، وحين يباغته محتاج في الطريق، لا ينظر إلى المبلغ الذي في جيبه، يعطي منه كل ما لديه ويساعده وهو يمضي، ومن دون أن يمن على ذلك المسكين والمحتاج ولا يرمقه بنظرةٍ أو يطالع في عينيه. 
كان بسيطاً ويعشق الطبخ ويقوم بنفسه بإعداد الباميا، ويعد السلطة الحارة بيديه. وحين يحين وقت نعاسه يحتسي الحليب الساخن، ومن متعه أن نخوض صحبة صفوة أصدقائه عباب المشاوير نحو ذهبان حين نكون في جدة، من أجل السمك النقي وكان لنا في ذهبان غداءات، أما الشاي فلا يحبه إلا بالإبريق الأصفر المفحم.
يسمع القليل من الموسيقى العربية، يتحاشى سماع أغاني رفيق دربه طلال مداح لأنها تثير أشجانه وتذكره بأصحابه الراحلين، ولكن حين يضعها أحدنا ينصت ويطرب، ويطالع فنون الموسيقى الصينية والآسيوية، حين يضع بعض فن «القوّالي» يستمتع كثيراً وتبدو على محياه البشاشة والطرب. 
مر بعلاقات مع كبار وصغار، اختار الأصدق منها، حُسب على مواقف سياسية معينة، فهمت بعض أغانيه ضده مثل «ياعيال البلد» أوائل التسعينيات، أجاد الثقافة ومارس الكتابة ولكن كانت الظروف أصعب من إمكانياته فهجر الكتابة بسبب حساسيات بعض الفنانين منه.
وَجدتَهُ مرةً بصحبة حامد عقيل والراحل صلاح مخارش وهو يقرأ كتاباً متهالك الورق ولكن من الواضح أن متنه سمين، سألته: ماذا تقرأ يا أبا وليد؟! فذكر أن الكتاب للنفّري فتعجبت وطربت.
عازفٌ بارعٌ للعود ومعلمٌ راسخٌ، حين قدم إلى الطائف التقى طلال مداح لأول مرة، واستقر بجدة، ولكن كيف كنا نحتال عليه من أجل أن يعزف؟ يقوم حامد عقيل وصديقنا «أبو يريد» بأخذ عوده وإعطائه لأحد الهواة، ويتقصد أن ينشز بالعزف، حينها يستفز طاهر لأن أذنه غاية في الذوق والحس، فيأخذ العود ثم يعزف ثم نطرب له جميعاً لأن لديه ريشة خاصة، ومن سبر اليوتيوب عرف من هو طاهر وكيف يعزف طاهر. وللحديث تتمة، إن شاء الله، في المقالة القادمة.
*كاتب سعودي