تبدو تركيا الدولة الأكثر تماساً مع الأزمة السورية بسبب الجغرافيا. ومع تزايد عدد اللاجئين السوريين إليها تتصاعد مشكلات اجتماعية تظهر فيها نزعات عنصرية تصل في بعض الحالات إلى التنمر. وقد تحملت تركيا مسؤولية العناية بنحو أربعة ملايين سوري لجأوا إليها، وأكثر من خمسة ملايين من سكان الشمال السوري، فضلاً عن الذين نزحوا إليه بحثاً عن حماية وأمان. وأبدت تركيا اهتماماً أمنياً واقتصادياً، حتى أن الليرة التركية باتت العملة المعتمدة في الشمال السوري الغربي، لكون الشمال يعتمد اعتماداً كاملاً على تركيا في الحراك التجاري وفي البنى التحتية والخدمات مثل الكهرباء والهواتف والإنترنت، وثمة تواصل يومي بين سكان الشمال وذويهم من اللاجئين السوريين الذين تنتشر مخيماتهم قرب الحدود، وفي المدن التركية الجنوبية. ويمكن القول إن تركيا تتحمل مسؤولية حماية ورعاية ثمانية ملايين سوري، الغالبية منهم استقرت في المدن والبلدات التركية ودخلت سوق العمل هناك، حيث حقق كثير من السوريين نجاحاً اقتصادياً وحضوراً جعل بعض الأتراك يشعرون بحالة تنافسية. وبالطبع فإن تركيا تحصل على مساعدات مالية من الاتحاد الأوروبي لرعاية اللاجئين السوريين مقابل وقف تدفقهم إلى أوروبا، وإن صرَّح بعض السؤولين الأتراك بأن الاتحاد الأوروبي لم يف بوعوده في هذا الشأن، وأن تركيا تتحمل مليارات الدولارات تكلفةَ رعاية اللاجئين لديها، وهذا سجال لا يخلو من مماحكات السياسة.
ولا ينكر السوريون أنهم لقوا عناية في سنوات لجوئهم الأولى، لكن طول المُقام راكم حالات من الضيق جعلت الحكومةَ التركية تسعى إلى حل سريع لمشكلة اللاجئين السوريين لديها، وطالما طالبت بإقامة منطقة آمنة يتم تأهليها في الشمال السوري تستوعب ملايين اللاجئين وتنهي معاناتهم، وأخطر المشكلات وجود مليوني طفل سوري خارج التعليم والرعاية التربوية، وهؤلاء سيشكلون مرغمين إعاقةً مستقبليةً جديرة باهتمام الدول المعنية بالأزمة السورية.
والمفارقة أن الشمال الغربي السوري حيث تتواجد تركيا عسكرياً ومدنياً، يقابله الشمال الشرقي الذي تسيطر عليه قوى «قسد» الكردية بدعم أميركي، وتتوجس تركيا أمنياً حيال المسلحين الأكراد، وقد هددت مرات بتدخل عسكري في الشمال الشرقي السوري لإنهاء صراعها مع «حزب العمال الكردستاني»، لكنها لم تحصل على تأييد يدعم موقفَها، وهذا ما جعلها تفكر بمقاربات جديدة للوصول إلى الهدف.
وأهم المقاربات هو تمتين علاقتها مع روسيا، وقد ساعدها على المضي قدماً نشوبُ الحرب الروسية الأوكرانية التي اتخذت فيها تركيا موقفاً مختلفاً عن الأعضاء الآخرين في حلف «الناتو»، واستطاعت إمساك العصا من المنتصف بين أطراف الصراع، لا سيما روسيا المحاصرة اقتصادياً وأوروبا التي ضاق عليها خناق نقص صادرات الطاقة والقمح.
ووجدت تركيا التي اتخذت منذ عام 2011 موقفاً مؤيداً لمطالب المعارضة السورية المسلحة، أن هناك هدفاً مشتركاً بينها وبين الحكومة السورية، وهو قضية الشمال الشرقي السوري، التي سبق للطرفين التركي والسوري التوافق حولها في اتفاقية أضنة أواخر القرن الماضي، فالحكومة السورية حريصة على حل القضية الكردية وعودة الشمال الشرقي إلى سلطتها، لا سيما أن هذه المنطقة الخصبة تمثل خزاناً للنفط والغاز والقمح والمياه، وهي مصدر أساسي للاقتصاد السوري. لكن الحكومة السورية ترجئ حل هذه القضية وتدرك ارتباطها بتطور العلاقة مع الولايات المتحدة، وأن الدعم الأميركي الراهن لـ«قوات سورية الديمقراطية» ليس دعماً استراتيجياً بقدر ما هو موقف ضاغط مرحلي.
وأحسب أن تركيا تجد أن توافق مصلحتها في حل القضية الكردية مع الحكومة السورية سيجنِّبها المواجهةَ العسكرية، كما أن التقارب التركي مع الحكومة السورية قد يفتح بوابةً رحبةً للتخلص من مشكلة اللاجئين بدل الترحيل الذي قد يتحوّل إلى ترحيل قسري يتم استنكاره دولياً وتعارضه قوى تركية كثيرة، وإن رحبت به بعض التيارات السياسية التركية. لكن الحكومة السورية تبدو أشد حرصاً على استعادة السيطرة على الشمال الغربي حيث «هيئة تحرير الشام» التي تهادن الوجود التركي العسكري.

هذه بعض القضايا الشائكة التي تجعل التقارب التركي السوري حذراً، وسيكون أصعب مع جدية المطالبة السورية بالانسحاب العسكري التركي من الشمال، ومع المطالبة التركية والدولية بتنفيذ القرار الأممي 2254، وهما شرطان عسيران. 

*وزير الثقافة السوري السابق