في الثالث من شهر مايو من كل عام، يتذكر أصدقاء وتلاميذ المفكر المغربي محمد عابد الجابري هذا الوجه العلمي والثقافي البارز الذي تحل ذكرى رحيله الثالثة عشرة. ولا شك في أن الرجل لا يزال بعد مرور أكثر من عقد على غيابه أهم المفكرين العرب المعاصرين، وأكثرهم تأثيراً وأوسعهم انتشاراً.

للتدليل على صحة هذا الحكم، يكفي الرجوع إلى معطيات توزيع كتبه لدى الناشرين ومنظمي المعارض، واستحضار حضور أعماله ومفاهيمه في المؤلفات والكتابات السيارة من كل التخصصات والاهتمامات. في حديث أخير مع أحد كبار الباحثين العرب، قلتُ له إن بعض أطروحات وآراء الجابري قد تكون متجاوَزةً اليوم بحكم تطور الدراسات التراثية في الموضوعات التي شغلت المفكر الراحل، بيد أن مما لا شك فيه أن تأثيره سيظل قوياً في المدى المنظور في عموم الساحة الثقافية العربية.

ولقد شبَّهتُ تأثير الجابري الراهن بما لكتب المفكر المصري الراحل أحمد أمين من حضور مستمر، رغم مرور قرابة قرن كامل على صدور سلسلته في تاريخ الفكر الإسلامي الوسيط. وما لا يدركه الكثيرون أن أحمد أمين كان سبّاقاً إلى كتابة أول محاولة لتاريخ الأفكار في التراث الإسلامي الوسيط، بالرجوع إلى مناهج الدراسات الإسلامية كما بلورها الجيل الأول من المستشرقين.

وبالرغم من تجاوز كثير من نظرياته في علم الكلام والفلسفة وتاريخ الفِرق والمذاهب، فإن سلسلة أحمد أمين ما تزال تشكل مصدراً لا غنى عنه لأي باحث في الإسلاميات الكلاسيكية. وبطبيعة الأمر، استفاد الجابري كثيراً من أعمال أحمد أمين (حتى ولو كان قليل الإحالة إليها)، بيد أنه استخدم مناهج القراءة وتحليل الخطاب المعاصرة في تقديم أول مقاربة منهجية مكتملة لتاريخ الفكر العربي الإسلامي الوسيط من منظور النقد الابستمولوجي والتحليل التاريخي الأيديولوجي.

في سلسلة الجابري في نقد العقل العربي، اطّلع القارئ على محاولة جريئة لربط النصوص المرجعية الأساسية في التراث من مختلف فروع المعرفة في بناء نسقي صارم ودقيق، ولئن تَعرَّضت لانتقادات وتحفظات عديدة (من أهمها ردود جورج طرابيشي الموسوعية) فإنها لم تُعوَّض لحد اللحظة بمحاولة من نفس القيمة والطموح. كان الجابري يقول لي كلما سألتُه عن رأيه في إحدى القراءات النقدية لأعماله: «لو صرفت وقتي لتتبع ما يكتب حولي، تقريظاً ونقداً، لما أمكنني أن أتقدم في مشروعي العلمي والبحثي».

وكان الجابري حتى الأيام الأخيرة من حياته مدافعاً عن أطروحاته الأصلية، معتقداً أن ردود الفعل التي خلّفتها سلباً لا تؤثر في شيء على قيمتها وصلاحيتها. وفي إحدى المرات، ناقشتُه في طريقة تطبيقه لحفريات ميشال فوكو في تاريخ الأفكار، بالعدول عن جوهر منهج فوكو في الربط بين التشكلات الخطابية المتزامنة في نظام معرفي واحد، في حين ميز الجابري في «نقد العقل العربي» بين ثلاث نظم منفصلة ومختلفة من حيث الرؤية والتوجه المنهجي.

وردَّ عليَّ بالقول إنه يطبق المناهج ويستفيد منها بدل اعتمادها كمناهج جاهزة للتطبيق على غرار سلوك الماركسيين العرب في تعاملهم مع المادية التاريخية الجدلية.المرة الوحيدة التي وافقني الرأيَ هي في قراءته المتسرعة لفكر زميله في الجامعة وفي الحزب «عبد الله العروي»، كما في كتابه الشهير «الخطاب العربي المعاصر» الذي يبدو أنه أحجم عن إعادة نشره بعد الرواج الهائل الذي حققه عند صدوره.

لم يرد العروي على انتقادات الجابري اللاذعة، وإن كان كتابه «مفهوم العقل»، الذي لا يذكر فيه أبداً الجابري، رداً ضمنياً على صاحب نظرية «نقد العقل العربي». قلتُ للجابري إنه لم يقدِّر إيجابياً إسهامات العروي البارزة في نقد الأيديولوجيا العربية وإعادة قراءته الثاقبة للنصوص الماركسية من منظور تنويري ليبرالي، ولم يثمّن سلسلتَه المفاهيميةَ الهامة، فأجابني بالقول إنه يحب العروي المؤرخ ولا يؤمن بالعروي الفيلسوف، لكنه يقر بأنه لم يهتم به الاهتمام المطلوب.

والواقع أن علاقة الجابري بمعاصريه من المفكرين العرب كانت إشكاليةً ومتوترةً، ولا يكاد يحيل إليهم في نص من نصوصه، رغم احترامه الجم لمحمد أركون الذي يعتبره مستشرقاً من أصل جزائري، ورغم صداقته الشخصية لحسن حنفي الذي يرى أن همومه الأيديولوجية طمست قدراتِه العلمية الفائقة. ويقر الجابري بأن تكوينه الفلسفي الأصلي كان محدوداً بحكم ظروف دراسته الجامعية وانشغاله بالنشاط السياسي، ولم يتجاوز تكوينه النظري الذي حققه بنفسه التقليد الماركسي والأدبيات الابستمولوجية، ولذا كانت مهمة طرابيشي في تتبع أخطائه العلمية سهلة، مع أن أهمية الجابري لا تكمن في المعلومات التي يقدمها بل في المنهج الذي يستخدمه والرؤية النظرية التي بلورها بإبداع وذكاء.

وفي دراسة مهمة حول ابن خلدون، يقول الجابري: «إن ما تبقى من الخلدونية ليس ما أنجزته بل ما علينا إنجازه». وعلى هذا المنوال يمكن القول إن ما بقي من الجابرية هو هذه القدرة على التصور والإنجاز، التي تجعل من زمننا الثقافي زمناً جابرياً مستمراً.

*أكاديمي موريتاني