التقيتُ الأستاذ نجيب محفوظ عدة مرات، منها لقاء تاريخي بحضور الدكتور أحمد زويل، ولقاءات أخرى توزعت في ثلاثة أماكن: مركب فرح بوت في الجيزة والمشهور بمركب أم كلثوم، وفندق شبرد المطل على النيل وسط القاهرة، وفندق موفينبيك المطار، وهي إلى جانب مقاهي وادي النيل وقصر النيل وريش.. أبرز الأماكن التي كان يتردد عليها الأديب الكبير.

في جميع اللقاءات كان الأساتذة عبد الرحمن الأبنودي وجمال الغيطاني ويوسف القعيد من الحضور الدائمين في لقاء الأستاذ. في هذه اللقاءات كان نجيب محفوظ يتحدث في موضوعات شتى تتعلق بالحياة والسياسة والمجتمع والفكر أكثر مما تتعلق بالأدب.. روايةً أو مسرحاً أو قصةً قصيرة. كان أبرز ما رأيت في نجيب محفوظ الإنسان هو التواضع الشديد، والبساطة المذهلة، وعدم الرغبة في الظهور أو الشهرة، وكذلك خفّة الظلّ، والضحك من القلب، وإشاعة أجواء من الودّ والبهجة.

كتب بعض الحضور الدائمين، ومن بينهم الأستاذ زكي سالم الذي تعرفت عليه في «لقاء زويل - محفوظ» عن تلك اللقاءات، كما كتب جمال الغيطاني عن «المجالس المحفوظية»، ونشر رجاء النقاش ومحمد شُعير وآخرون كتباً مميزة تروي ذكريات ومذكرات الأديب الكبير. كان حديث محفوظ في مجالسه أقرب لمقطوعات «مقاليّة»، وهي تشبه عمله الختامي «أحلام فترة التفاهة».

كان الأستاذ نجيب محفوظ بالتوازي مع أدبه ومجالسه يكتب المقال الصحفي بامتياز، وقد أحسنت الدار المصرية اللبنانية بجمع ونشر هذه المقالات عام 2015 في أجزاء ثلاثة رائعة باسم «حوليات نجيب محفوظ».

يضم كتاب «حوليات نجيب محفوظ» عدداً كبيراً من المقالات المنتظمة، التي كان يكتبها الأديب العالمي في صحيفة «الأهرام»، وقد جرى توزيعها على النحو التالي: «حوليات نجيب محفوظ.. الدين والفلسفة والثقافة»، «حوليات نجيب محفوظ.. السياسة والمجتمع والشباب»، «حوليات نجيب محفوظ.. العرب والعلم والتقدم».

كان الأديب الكبير يكتب مقاله بصحيفة «الأهرام» في كل هذه الموضوعات، وهذا هو الجانب الآخر من محفوظ، إنّه نجيب محفوظ الكاتب السياسي والمفكر الاجتماعي. كانت مقالات محفوظ رائعة وثريّة، كما كانت جزِلة ومنضبطة، غير مهتزة أو مترهلة. ولقد اتسمت هذه المقالات كما اتسمت أعماله الأدبية بالرصانة والحكمة.

في عام 2020 صدرت الترجمة الإنجليزية لكتاب «حوليات نجيب محفوظ»، وقد حظيت باهتمام إعلامي غربي كبير. لا يمكن مقارنة مقالات محفوظ برواياته، على نحو ما تذهب «فاينانشيال تايمز». فلقد كانت رواياته تحلّق في فضاء شاهق، ولكن هذه المقالات تمثل شهادة مهمة لأكبر أديب عربي.. على حقبة تاريخية كبيرة من تاريخ مصر والعالم. كما أنها تقدم آراء محفوظ المباشرة على لسانه، لا على لسان أبطاله وشخوصه.

لم يكن نجيب محفوظ أديباً كبيراً فحسب، بل كان فيلسوفاً كبيراً، اختار أن يضع الفلسفة في فصول الرواية، وأن يضع الحكمة على لسان أبطاله. وهكذا يمكن معرفة الفكر السياسي والاجتماعي عند محفوظ من مقالاته ورواياته.. سواء بسواء. إن قراءة «حوليات نجيب محفوظ» تقدم ثراءً معرفياً كبيراً، من الدين إلى السياسة، ومن العلم إلى الفلسفة. شكراً لمن قدموه لقراء العربية، ولمن ترجموه لقراء الإنجليزية.

*كاتب مصري