نبهني الصديق الدكتور رضوان السيد إلى رحيل المستشرق الألماني الأميركي فيلفرد مادلونغ، الأسبوع الماضي، عن عمر زاد على التسعين. كان الراحل بالإضافة إلى المستشرق الألماني الآخر «جوزف فان أس» الذي توفي سنة 2021، والمستشرق الفرنسي دانيال جيماريه (الطاعن في السن).. آخر جيل المستعربين الذين درسوا بقوة التراثَ الإسلامي وأتقنوا اللغات الإسلامية الكبرى مثل العربية والفارسية والأوردية والتركية.

وإذا كان جيماريه قد اهتم أساساً بالفكر الأشعري الذي ألَّف حوله كتابَه المرجعي الهام «مذهب الأشعري»، وكان «جوزف فان أس» قد خصص جهدَه العلمي الاستثنائي للتراث الاعتزالي، فإن مادلونغ ركّز أعمالَه البحثيةَ على الشيعة (الزيدية والإسماعيلية والإمامية) والإباضية، دراسةً وتحقيقاً.

ومع أن الثلاثة واصلوا جهودَ المستشرقين الكلاسيكيين في تحقيق النصوص الهامة في التقليد الكلامي والعقدي الإسلامي، وكشفوا عن آراءَ هامة فيه بمراعاة التطورات الإيجابية في حركة التحقيق العلمي للنصوص والمخطوطات الوسيطة، كما كانوا إجمالا حريصين على الموضوعية والتجرد العلمي، إلا أنهم لم يقدموا نظرياتٍ مكتملةً ومتناسقةً حول التاريخ الفكري في الإسلام.

كان «فان أس» شديد التردد في التعامل مع النصوص الكلامية الأولى التي تحدثت في الإيمان وخلق الأفعال والصفات الإلهية (مثل كتابَي «الإرجاء» و«الرد على القدرية» لحسن بن محمد بن الحنفية ورسالة حسن البصري)، وقد اتبع على العموم مسلكاً تاريخياً سياسياً في منهجه لدراسة علم الكلام الإسلامي الذي اعتبره انتقالا من أدبيات المناظرات بين الفرق إلى كتابات أكثر ميتافيزيقية وإن كانت لا ترقى إلى مستوى اللاهوت الفلسفي. أما جيماريه فظل ملتزماً بالمنهج الفيلولوجي الاستشراقي التقليدي في قراءته للتراث الأشعري، ظهوراً وتطوراً، ويحسب له أنه أماط اللثام عن الآراء والمواقف الأشعرية الخاصة وأظهر عمقَها الفكري والجدلي، متخلياً عن المقاربتين السائدتين قبله: اختزال الأشعرية في إحدى تفريعات الاعتزال الجبائي أو اعتبارها نمطاً من التنازل للمدرسة الأثرية المناوئة أصلا للكلام.أما مادلونغ فذهب إلى موقف مغاير، بالتشكيك في السردية المؤسسة للتقليد الإسلامي الوسيط، من منظور الفِرق والجماعات غير السنية. ما نخلص إليه هو أن حقل الدراسات الإسلامية لدى كبار المستشرقين المعاصرين، ظل بمنأى عن المناهج والطرق الجديدة في فهم ودراسة الظاهرة الدينية.

وكان محمد أركون يكرر دوماً هذا الرأي ويشيد ببعض المحاولات الجديدة من خارج الحقل الاستشراقي، لكن تلك المحاولات اتسمت في الغالب بالسطحية والتسرع نتيجةً لضعف تكوين أصحابها في الدراسات الإسلامية وفي اللغة العربية، على عكس المستشرقين الكبار الذين حققوا بإتقانٍ النصوصَ واطلعوا بدقة وشمول على الكتابات التراثية. ولعل السبب الأساسي في قصور الأعمال الاستشراقية المعاصرة هو كونها أهملت الأبعاد الفلسفية واللاهوتية في علم الكلام الإسلامي، ولم تعتبره في الغالب إلا أدباً جدلياً صرفاً يندرج في إطار صراع الفرق والمذاهب، أو غطاءً أيديولوجياً لصدام الشرعية والحكم على صعيد الاعتقاد والحكم.

لقد شذ عن هذا الحكم المستشرق الأميركي ريتشارد فرانك الذي تلمس العمق الفلسفي واللاهوتي في علم الكلام الإسلامي، وإن لم ينتبه إلى روابطه الكثيفة مع الفلسفة الإسلامية ومع تاريخ العلوم العربية في العصور الوسيطة.ولم ينجح المفكرون العرب المعاصرون في تقديم مقاربات بديلة في تاريخ الفكر العقدي الإسلامي، منذ الأعمال الرائدة لطيب تزيني وحسين مروة التي تبنت المنظور الماركسي التقليدي في قراءة وتأويل التراث العربي الإسلامي الكلاسيكي إلى أعمال محمد عابد الجابري الذي فصل جذرياً بين الكلام من حيث هو علم بياني والبرهان الفلسفي.

لقد طغت في السنوات الأخيرة مقاربتان في الساحة الفكرية العربية: رفض علم الكلام من منظور أيديولوجي معروف لدى حركات الإسلام السياسي التي تراه خطراً على مفاهيمها للحكم والشرعية والدولة (السياسة لدى أهل السنة من الفروع وليست من أصول الاعتقاد والشرعية معقودة للحاكم الذي يضمن السلم الأهلي ويحافظ على مؤسستي الدين والدولة)، والسعي لاستبدال علم الكلام الكلاسيكي بعلم كلام جديد هو في اتجاهه العام ليس أكثر من لاهوت للتنوير أو الثورة على غرار اللاهوتيات المسيحية المنشقة.

لا يعني الرجوع لعلم الكلام إحياء آداب الفتن والجدل، فلا أحد اليوم يجد نفسه منخرطاً في صراع تاريخي متجاوز، كما أن المسألة لا تتعلق بالانحياز لطائفة أو مذهب بعينه، بل إن المطلوب هو تقديم نظرية متكاملة عن الفكر العقدي الإسلامي الوسيط بعد أن تحقق لنا الحد الأدنى من الاطلاع على نصوص الكلام المبكر وكتابات الاعتزال المتأخر بفضل جهود المستشرقين بمن فيهم مادلونغ الذي حقق بعض أهم النصوص الكلامية التي كانت مفقودة.

*أكاديمي موريتاني