يحاول المتطرفون رسم صورة مروعة لعالمنا الإسلامي، تحلّ فيه الخريطة الدموية محل الخريطة الجغرافية، ولتمتد هذه الخريطة من طالبان شرقًا إلى بوكوحرام غربًا، ومن داعش شمالاً إلى القاعدة جنوبًا. بالمقابل يحاول المفكرون الحضاريون أن يُسقطوا رايات الموت، ويضعوا الحدود لدعاة الكراهية والعدميّة.

هنا تأتي أهمية المشروع الفكري الكبير لفضيلة العلامة الشيخ عبدالله بن بيّه، الذي لطالما طرح أن الأمة إزاء نهجيْن ومسارين: إما أن تكون أمة البنيان المرصوص، أو أن يكون المسلمون بعضهم لبعض عدو، وعلى ذلك تنحصر المهمة الأسمى في وضع الأمة على طريق التعاون من أجل الحياة، ومنع الآخرين من دفعها نحو حافة الهاوية. قبل أيام تشرفت بالحديث في جلسة نقاشية رفيعة المستوى، أُقيمت في رواق منتدى أبوظبي للسلم في معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2023.

وهي الجلسة التي حضرها الأستاذ المحفوظ بن بيّه أمين عام «منتدى أبوظبي للسلم»، وشارك فيها المفكر العربي الكبير الدكتور رضوان السيد، وأستاذ الفلسفة البارز الدكتور السيد ولد أباه، والدكتور عمر حبتور الدرعي، وأحسنَ إدارتها الإعلامي الرصين والمثقف المتميز الدكتور سليمان الهتلان. كان موضوع «الدولة الوطنية في الإسلام» هو جوهر النقاش في ذلك اللقاء، ولقد كان إجماع ضيوف «منتدى أبوظبي للسلم» على شرعية الدولة الوطنية، وعن كون الانتماء للوطن ولحدوده وترابه هو أمر محسوم في أصوله الشرعية وضروراته الواقعية.

كان من بين ما قلتُ هو استحضار الرؤية الثاقبة للشيخ عبد الله بن بيّه في أن عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) قد شهد وجود دولة مسلمة في الحبشة برئاسة الملك المسلم النجاشي، ولم يأمر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بدمج دولة الحبشة في دولة المدينة المنورة، كما لم يأمر المسلمين في الدولة الثانية بالهجرة إلى الدولة الأولى. ومع ذلك فقد تجاهل علماء المسلمين ذلك. وحسب رؤى الشيخ بن بيه فقد استخدمت راية الخلافة لتكون في نهاية المطاف راية الحرب الأهلية، التي فرقت المسلمين وأراقت الدماء عبر قرون طوال، حتى جعلت من أمتّنا أمة منهكة ومرهقة.. يغطي فيها الألم على الأمل.

ولقد كان من بين ما قُلت في رواق منتدى أبوظبي للسلم: إن الدولة الطولونية كانت أول دولة وطنية في مصر الإسلامية، أعقبتها دول وطنية لها عاصمتها وحدودها وجيوشها وقادتها، وصولاً إلى عصر محمد علي باشا. وكان ما يربط الدولة المصرية بالخلافة هى رابطة أقرب إلى الكونفدرالية أو الكومونولث. لم ينكر الإمام ابن حزم وجود دولة أموية في الأندلس، وهى على خلاف مع الدولة العباسية في الشرق، ولم ينكر ابن خلدون قاضي قضاة مصر المملوكية، ولا حسن العطار شيخ الأزهر في عهد محمد علي.. وجود دولة وطنية لا تخضع لمركزية الخلافة.

لم تكن دولة الخلافة بل كانت الدولة المصرية الأيوبية هي ما أوقفت الصليبيين في حطين، ولم تكن الخلافة أيضاً بل كانت الدولة المصرية المملوكية هي ما أوقفت المغول في عين جالوت. سيظل موضوع الدولة الوطنية موضوعًا مهمًا، وستظل أطروحات العلامة بن بيّه بهذا الصدد.. معالم أساسية على الطريق.. تستحق الاحترام والتقدير.

*كاتب مصري