تترافق خطورة «الفراغ الرئاسي»، وملف حاكم مصرف لبنان، مع توقيت تحذير لبنان بتصنيف وضعه المالي على القائمة «الرمادية» لمجموعة العمل المالي الدولية (FATF)، لأنه «غيرمتعاون» في منع غسل الأموال وتمويل الإرهاب، بما يؤدي الى عزله عن النظام المالي العالمي، إذا لم يسارع الى تحسين وضعه عبر التقيد بإجراءات التعاون. وهكذا تتراكم المشكلات ضمن سيناريو غير مطمئن، تتداخل فيه عوامل لبنانية وإقليمية ودولية، ضاغطة بشدة، وفق تطور مصالح سياسية محددة. 
لقد اعتاد اللبنانيون على الفراغ في رئاسة الجمهورية منذ نحو 35 سنة، إذ تكرر حدوثُه أربع مرات منذ عام 1988. وكانت المرة الأخيرة بعد انتهاء ولاية ميشال عون في أكتوبر 2022، وهو فراغ مستمر بسبب «الانسداد السياسي» وفشل النواب في انتخاب رئيس جديد. وإذا كان اللبنانيون قد تعايشوا مع الفراغ الرئاسي، فكيف سيواجهون أول فراغ مرتقب في منصب حاكم مصرف لبنان مع إنتهاء ولاية الحاكم الحالي رياض سلامة في 31 يوليو المقبل؟
لا شك في أن «الفراغ» في حاكمية مصرف لبنان هو «أخطر فراغ على الإطلاق»، لأن حاكم المصرف يعد «أقوى رجل في الجمهورية اللبنانية»، فهو السلطان المطلق في إدارة البنك المركزي، ويمتلك صلاحيات السياسة النقدية والمصرفية، وكذلك رئيس المحكمة المصرفية العليا التي تعزل إدارات المصارف وتحيلها إلى المحاكم المختصة، وهو يهيمن على لجنة الرقابة على المصارف.. إضافة لكونه رئيس هيئة أسواق المال، ورئيس هيئة التحقيق الخاصة التي تراقب تطبيق القوانين في مجال تبييض الأموال. ولذا فإن هذه «المركزية الشديدة» تجعل المشكلةَ أكثر صعوبةً وتعقيداً، لا سيما أن «فراغ» الحاكمية يشل السلطة القادرة على خلق النقد، وتمويل الخزينة، ما يهدد بوقف الإنفاق العام، ويؤدي إلى مزيد من الانهيارات المالية والنقدية. 
ولتجنب هذا «الفراغ» وتداعياته، يمكن تطبيق قانون النقد والتسليف الذي ينص على أن يتسلم نائب الحاكم الأول، وهو وسيم منصوري، المسؤوليةَ مؤقتاً. لكن منصوري قد يتحفظ ويستقيل، بناءً على نصيحة مرجعيته السياسية، حتى لا يتحمل أوزار المخالفات والخسائر. وفي حال حصل ذلك، يبقى التركيزُ على الإسراع بانتخاب رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة قادرة على إدارة شؤون البلاد، وتعيين حاكم للبنك المركزي يستطيع استعادة ثقة المستثمرين، والتعامل مع الأسواق المالية، وصندوق النقد والبنك الدوليين.. فهل يمكن تحقيق ذلك قبل يوليوالمقبل؟
في سياق الاهتمام الدولي بلبنان، أعطت واشنطن تفويضاً لباريس لحل الملف الرئاسي، بينما يتركز اهتمام الأميركيين على موقعَيْ قيادة الجيش وحاكمية مصرف لبنان، وقد استثمروا في المؤسسة العسكرية تدريباً وتجهيزاً بشكل كبير. كذلك يريدون حاكماً متعاوناً معهم في العلاقات المالية والنقدية، ومكافحة تبييض الأموال.. خصوصاً أنهم معنيون تاريخياً باقتصاد لبنان «المدولر» وقطاعه المصرفي. 
وبما أن التدخل الأميركي تحكمه المصالحُ، فقد ربطت واشنطن الملفَّ الرئاسيَّ بملف حاكمية المركزي، وأبلغت سفيرتُها في بيروت «دوروثي شيا» قادةً سياسيين بضرورة انتخاب رئيس للجمهورية لتلافي الفراغ. لكن يبدو أن تحقيق أهداف واشنطن، قد يصطدم برغبة «حزب الله» في أن يكون شريكاً كامل الصلاحية في اختيار الحاكم الجديد. مع العلم بأن البيان الرسمي لوزارة الخارجية الأميركية أشار إلى أنه «يعود للحكومة اللبنانية اتخاذ القرار، وسنتعامل مع الحاكم المعيَّن بصفة رسمية». وركز البيان على أن تكون «مهمته إرساء الاستقرار في النظام الاقتصادي والقيام بإصلاحات مؤثرة». 

*كاتب لبناني متخصص في الشؤون المالية