يبدو أن موجة الاضطرابات الأخيرة في فرنسا، والتي توجت بعدة ليال من أعمال الشغب الجماعية في عدة مدن في أنحاء البلاد، قد خمدت. لكن تأثير الغضب الذي اندلع بعد مقتل نائل المرزوقي، وهو شاب في سن الـ17 من أصل شمال أفريقي يقطن ضاحية تسكنها الطبقة العاملة خارج باريس، سيستغرق وقتاً أطول للتغلب عليه.

وشهدت أعمال الشغب إحراق أكثر من 5000 مركبة، وتضرر أو نهب أكثر من 1000 عقار ومهاجمة 250 مركزاً للشرطة.. في مشاهد لا مثيل لها منذ انتفاضة استمرت ثلاثة أسابيع في عام 2005. وتم اعتقال ما يقرب من 4000 شخص في حملات أمنية محلية. وفي يوم الثلاثاء، عقد الرئيس إيمانويل ماكرون اجتماعاً مع حوالي 300 من رؤساء البلديات التي تعرضت لأعمال عنف وأضرار، في محاولة لبدء نقاش حول ما يجب القيام به لمعالجة المشاكل المجتمعية.

ووسط الاستقطاب السياسي والشجار بين رؤساء البلديات من ذوي الميول اليسارية واليمينية، اعترف ماكرون بأن الحاضرين لم يُظهروا «إجماعاً» يُذكر في الجلسة. لكنه تحلى بالشجاعة بعد أسبوع من الفوضى التي أقحمت حكومتَه في أزمة. ونقلت وكالة الأنباء الفرنسية عن ماكرون قولَه: «هل هي عودة دائمة للهدوء؟ سأكون حذراً، لكن الذروة التي شهدناها في الأيام السابقة قد ولت. إننا جميعاً نريد نظاماً جمهورياً دائماً. هذه هي الأولوية المطلقة».

لكن فرنسا سبق أن شهدت مثل هذه الأحداث من قبل، فمنذ الثمانينيات أدى الغضب من ممارسة الشرطة والتمييز المنهجي إلى جولات من الفوضى في المجتمعات الفقيرة المكونة من أقليات البلدان الواقعة في شمال وغرب إفريقيا. لكن فوضى الأسبوع الماضي تشكلت أيضاً من خلال عناصر جديدة، مثل مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تضمنت مشاهد جنونية لشبان يشعلون النيران في السيارات وينهبون المتاجر على خلفية موت المرزوقي بنيران شرطي.

الجديد أيضاً هو الفرصة الواضحة التي يبدو أن العنف أعطاها لليمين المتطرف في فرنسا. وقد استفادت من هذه اللحظة مارين لوبان، التي أمضت قرابة عقدين من الزمن وهي تدفع حركة سياسية، كانت ذات يوم على هامش الحياة العامة، إلى التيار الرئيسي. أظهر استطلاع للرأي في أعقاب الاضطرابات أن الجمهور الفرنسي يوافق على ردها الصارم على أعمال الشغب أكثر من أي سياسي فرنسي آخر، بما في ذلك ماكرون.

وفي الوقت الذي انتقد فيه نوابُها آثار الهجرة وكراهية المتظاهرين المتصورة، تدفع لوبان بإجراءات قاسية، بما في ذلك تخفيض السن التي يمكن فيها محاكمة الجناة كبالغين في الإجراءات الجنائية إلى 16 عاماً، وكذلك تجريد المدانين بارتكاب جرائم أو المزيد من المخالفات البسيطة من حقهم في الحصول على الإسكان العام ومدفوعات الرعاية الاجتماعية. كما دعت إلى تزويد السجون بمزيد من الأسّرة ودخول نظام الحد الأدنى الإلزامي من الأحكام حيز التنفيذ.أما ماكرون، فقد اتخذ نهجاً أكثر حذراً، حيث حث على محاسبة المتظاهرين على المستوى الاجتماعي، قائلا: «سنضع الحلول معاً». كما علّق السبب في اندلاع الاضطرابات جزئياً على تأثيرات وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما تيك توك وسناب تشات، حيث تساعد الشباب المتظاهرين على التعبئة في إثارة الشغب وتقليد بعض السلوكيات الغريبة.

وقوبلت مثل هذه الحجج بالسخرية من جانب اليسار، حيث دعا بعض السياسيين إلى مزيد من الاعتراف المباشر بالعنصرية المتأصلة في المجتمع الفرنسي، وخاصة بين الشرطة. وقال النائب اليساري أليكسيس كوربيير في مقابلة: «إذا كنت تعتقد أن الناس سيحرقون مركز شرطة لأنهم قرؤوا تغريدة، فهذا ضرب من نظرية المؤامرة في رؤية الأمور، والتي تتجاهل الأسباب الاجتماعية وراء هذه الظروف».

وأضاف: «لقد فقد الناس أرواحَهم، والطريقة التي تم التعامل بها لم تمنح العائلات أي ثقة». ويختلف الاستقطاب الحالي عما كان عليه في الماضي. فقد كتب جون ليتشفيلد، الذي عمل كمراسل لصحيفة «إندبندنت» في باريس لمدة عقدين: «قبل ثمانية عشر عاماً، كانت فرنسا بلداً تهيمن عليه الأحزاب التقليدية ليمين الوسط واليسار الوسطي. لم يشجع أي من السياسيين البارزين أعمال الشغب.

وسعى قليلون للاستفادة منها من خلال الإشارة إلى أن فرنسا واجهت حرباً أهلية عنصرية أو دينية. والآن تنقسم السياسة الفرنسية في ثلاث اتجاهات بين اليسار الراديكالي، والوسط الإصلاحي للرئيس إيمانويل ماكرون، واليمين المتشدد الذي يفكر بمصطلحات عنصرية صريحة». وفي السنوات الأخيرة، شجب العديد من الشخصيات البارزة في المؤسسة الفرنسية، بما في ذلك ماكرون، التسلل المفترض للقيم الأميركية مطالِبين بـ«اليقظة» في مجتمعهم، خاصة وأن حركة «حياة السود تهم» Black Lives Matter اكتسبت زخماً عالمياً بعد مقتل جورج فلويد عام 2020 في مينيابوليس.

في روايتهم، كانت الروح العلمانية والجمهورية في فرنسا تتآكل بسبب خط يساري «يتعلق بالهوية» ويتعارض مع قيم البلاد المصابة بعمى الألوان (أي أنها لا تفرق بين مواطنيها). من المؤكد أن النقاد ذوي الميول اليسارية أشاروا منذ فترة طويلة إلى نفاق هذا العمى اللوني الرسمي والتوترات التي لم يتم حلها في المجتمع الفرنسي. وبغض النظر عن مزايا هذه الآراء المتنافسة، يبدو أن نوعاً جديداً من الواردات الأميركية قد استولى على فرنسا في أعقاب أعمال الشغب هذه، أي احتضان غير ليبرالي لسياسات «القانون والنظام»، إلى جانب تجديد النظرة إلى الضواحي حيث تقيم الأقليات المحرومة.

في صدى لجامعي التبرعات المدعومين من اليمين في الولايات المتحدة، جمعت حملة جماعية لجمع الأموال للضابط الذي قتل المرزوقي على موقع «جو فاند مي» GoFundMe أربعة أضعاف الأموال التي تم جمعها في الأيام الأخيرة من قبل صندوق مواز أطلق لدعم عائلة المراهق المقتول. لا بد أن لوبان وغيرها من المنافسين اليمينيين لماكرون يستفيدون من هذا الشعور المتنامي في السنوات القادمة. لقد تم بالفعل استغلال نظرائهم في أوروبا في هذه اللحظة.

أشار رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان إلى المشاهد في فرنسا كدليل على إخفاقات التعددية الثقافية وتبريراً لرغبة حكومته في تجاوز ميثاق أوروبي مخطط بشأن الهجرة. وقال السياسي الإيطالي اليميني المتطرف ماتيو سالفيني إن أعمال الشغب كانت نتيجة «سنوات من التراخي تجاه التطرف الإسلامي وضواحي تهيمن عليها الجريمة». ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسينج أند سينديكيشن»

إيشان ثارور*

*كاتب متخصص في الشؤون الخارجية