من المعلوم أنّه لا يمكن القول فلسفياً بوجود شيء ثابت على نحو مطلق. وهذا ما تقوم عليه العديد من الفلسفات المعاصرة ونظريات التطوّر والتقدّم. أمّا العلم الوضعي، فيجعل ممّا تكشفه مناهج البحث والاستقراء مرجعيةً مطلقة في العلوم الطبيعية تتجدّد باستمرار. ومن المعلوم أيضاً، كما يكتب العلامة الكتاني، أنّ مسألة الثبات والتغيّر مشكلة فلسفية قديمة، فقد كان فلاسفة اليونان يقسّمون ظواهر الكون والقوانين المحرّكة له إلى جواهر وأعراض؛ فالجواهر ثابتة والأعراض متغيّرة.

وقد جاءت الثورة الفلسفية والعلمية في تاريخ أوروبا الحديث، وقالت بمبدأ التطوّر الذي يتحكّم في ظواهر الكون. وبفضل هذا المبدأ وصل الإنسان إلى ما هو عليه اليوم من تقدّم، بل أصبح التطوّر يفسّر كلّ ظواهر الحياة البيولوجية بما فيها حياة الإنسان.

وعندما لا يكون هناك تكيف ولا تطور يكون هناك جمود. ولعلّ ذلك يكون سبباً في الجمود الذي عرفه الفكر الإسلامي حينما اكتفى بالتقليد واجترار التراث، بل وتم اللجوء فيه إلى إغلاق باب الاجتهاد، والتنكّر لمتغيّرات المجتمع، فجمد الفقهُ الإسلاميُّ منذ القرن الرابع الهجري.

ورغم وجود دعوات للاجتهاد وإعمال العقل وتطوير التشريع، فإنّ هذه الدعوات لم تجد الأذن الصاغية، لكن عندما انخرطنا في التاريخ المعاصر، وهو تاريخ متغيّر باستمرار، ومتطوّر على الدوام، لم يكن أمام ثقافاتنا بدٌّ من الانفتاح على مفاهيم التطوّر، والذي أصبح يَطال كلّ شيء في حياتنا، ولم يكن لها بدٌّ من الإيمان بأنّ التطوّر سنّة الحياة.

وفي هذا الصدد تُطرح مسألةُ الفتوى في أوطاننا، وقد كانت منذ أيام موضوع مؤتمر دولي عُقد في مدينة مراكش من طرف مؤسسة محمد السادس للعلماء الأفارقة، استهل أعمالها برسالة وجهها جلالةُ الملك محمد السادس إلى المشاركين، حيث أكد أن العلماء مطالبون بالتأثير الإيجابي في الناس، وذلك بأن يبينوا لهم محاسنَ الوسطية والاعتدال، وأن يقوموا مقابل ذلك بنفي التأثير السلبي للأصناف المتطرفة الجاهلة في عقول الأبرياء.. فالمسؤولية التي يتحملها علماء الدين في مجتمعات تتطور باستمرار هي مسؤولية عظمى؛ لأن الأمر يتعلق بأمانة جسيمة أمام الله وإزاء الناس الذين ينظرون إلى العلماء على أنهم «المرجعية الوثقى في تبليغ دين الله أولاً، وفي حسن تنزيل مقاصده على أحوال الناس ثانياً».

ولهذا لا يمكن لمجتمع أن يصل إلى بر الأمان في هذه المسألة إلا بمأسسة الفتوى، وقد جعلتها التجربةُ المغربيةُ الناجحةُ جماعيةً ومن ضمن اختصاصات المجلس العلمي الأعلى، الذي يستفتيه الناسُ في أمور الشأن العام ذات الصلة بالدين. والأخذ بهذا الشرط في كل بلد من البلدان، وهو جعل الفتوى في الشأن العام موكولة لمؤسسة جماعية من العلماء العدول الوسطيين المؤمنين بالثوابت ومسائل التطور وفهم المجتمعات الحديثة، يُعَد من مقومات النجاح والتوازن المنشود التي توقف الغلو وتمنع الارتماء في عالم الانحراف والإرهاب.

*أكاديمي مغربي