«إن الغرب بات أقوى وأكثر اتحاداً مما كان عليه في أي وقت مضى». هكذا أكد الرئيس الأميركي جو بايدن من على الدرج أمام «القلعة الملكية» في وارسو يوم 26 مارس 2022، وذلك بعد أكثر من شهر بقليل على انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. وقال بايدن إنه بسبب خطورة هذه الحرب فقد «توحّد العالَم الغربي من أجل توفير احتياجات الشعب الأوكراني».
وقبل ذلك بأربع سنوات، كان دونالد ترامب قد اختار وارسو مكاناً لإلقاء خطاب جاء فيه أن «السؤال الجوهري في عصرنا هو ما إن كانت لدى الغرب الإرادة اللازمة للبقاء والاستمرار». بالنسبة لبايدن، كانت العاصمة البولندية وارسو اختياراً منطقياً بسبب الدعم البولندي القوي لكفاح أوكرانيا من أجل البقاء في مواجهة العملية الروسية، وبالمقابل كان ترامب أكثر انجذاباً إلى التزام الحكومة اليمينية في بولندا بالقيم الاجتماعية التقليدية وموقفها المتشدد من الهجرة.
حقيقة أن هذه الدفاعات المختلفة سياسياً عن الغرب كانت مع ذلك متماسكة عموماً إنما تُظهر كيف أن «الغرب» نفسه بات مفهوماً معقداً يصعب تحديد تعريف واضح له. فالإشارات إلى الغرب موجودة في التغطيات الإعلامية بكثرة وبدون تعريف عموماً. وهكذا، أصبحنا نقرأ أن مرشح المعارضة في الانتخابات الرئاسية التركية يرغب في علاقات أوثق مع الغرب، مثلاً، أو أن أوكرانيا تنتظر مزيداً من الأسلحة الغربية.
وفي سياق السياسة الخارجية على الأقل، يُستخدم مصطلح «الغرب» عموماً ككلمة جامعة للإحالة إلى ديمقراطيات السوق الحرة في أوروبا وأميركا الشمالية، وكتسمية جماعية تحيل إلى خليط من المؤسسات متعددة الأطراف مثل الاتحاد الأوروبي، وحلف «الناتو»، ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، ومجموعة السبع. لكن لدى «الغرب» أيضاً دلالات ثقافية وعرقية بالطبع. وفي هذا الصدد، يحاجج عالمُ الجغرافيا البريطاني أليستر بونيت بأن «الحضارة الغربية» صارت تُستخدم كثيراً في السياقات التي كانت تُستخدم فيها «الحضارة البيضاء» في الماضي. وما زالت بعض التنظيمات تستخدمها على ذاك النحو، مثل جماعة الـ«براود بويز» (الأولاد الفخورون) الأميركية التي تصف نفسها بالشوفينية الغربية.
بيد أن اللافت هو أن معظم القادة والمسؤولين في الحكومات الغربية صاروا حريصين على أن يوضحوا أنهم لا يعتقدون بأن الديمقراطية أو حقوق الإنسان أو حكم القانون.. قيمٌ غربيةٌ في جوهرها بأي شكل من الأشكال. ومثلما قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكين في حديثه عن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا: «إننا لا نتحدث عن القيم الغربية، بل نتحدث عن القواعد العامة حول العالم». وفي بعض الأحيان، تُدرَج اليابان في القائمة نفسها مع البلدان «الغربية»، على غرار ما حدث خلال تغطية قمة مجموعة السبع الأخيرة في هيروشيما، وهو ما يثير أسئلة بشأن ماهية الغرب بالضبط، ولماذا ما زال الغربيون وغير الغربيين على حد سواء يستخدمون هذا المصطلح الذي يبدو عتيقاً بكثرة.
سمة التعقيد وصعوبة التعريف التي تميّز المصطلح هي موضوع كتاب «الغرب.. تاريخ جديد في أربع عشرة حياة»، للمؤرخة وعالمة الآثار البريطانية الكلاسيكية نيشاه ماك سويني. بعض الشخصيات التي وردت في كتابها معروفة ومشهورة، مثل هيرودوت وفرانسيس بيكون.. في حين أن بعض الشخصيات الأخرى أكثر غموضاً، مثل ثيودور لاسكاريس وغودفري. وجميعُها شخصياتٌ لأشخاص يمكننا أن نميّز «من حيواتهم» الأفكار المتغيّرة بشأن «الإرث الحضاري والأنساب الثقافية المتصوَّرة»، كما تحاجج المؤلفة. كما أن جميعها تُثبت أن السردية الكبيرة الحالية للحضارة الغربية «غير صحيحة على نحو واضح ومفلسة أيديولوجياً»، كما تقول. وتستخدم ماك سويني هذه المجموعة المتنوعة من الحيوات للدفع بأن قصة الغرب ليست طريقاً غير متقطعة «من أفلاطون إلى الناتو»، وإنما عبارة عن مجموعة من المسارات المتفرعة والمتشعبة، وبأن الأفكار والقيم التي نميل إلى ربطها بالعصور الكلاسيكية القديمة، مثل المسيحية أو المنهج العلمي، تطورت في «الشرق» قدرَ تطورها في أوروبا.

  • الغرب.. ماهيته ودلالاته

وبطبيعة الحال، فإن الفكرة القائلة بأن الغرب عبارة عن هوية مبنية ذات مضامين سياسية هي فكرة غير راديكالية تماماً. وتعترف ماك سويني بواحد من المفكرين الأكثر نفوذاً في فصل متأخر من الكتاب، ألا وهو الأكاديمي الأميركي الفلسطيني إدوارد سعيد، غير أن الأمر يتعلق بمفهوم يأسر ويهيمن حتى على أذهان أشد منتقديه. وتلفت ماك سويني إلى أنه على الرغم من أن سعيد رفض الغرب باعتباره «خيالياً»، إلا أنه أقر مع ذلك في عمله بالنسب التاريخي الذي يشمل شخصيات «من هوميروس إلى فيرجينيا وولف»، على حد تعبيره.
وإلى ذلك، تبدو ماك سويني أكثر اهتماماً بالصين في ما يتعلق بالتحديات المعاصرة التي تواجه الغرب. وتختتم كتابَها بفصل عن كاري لام، الرئيسة التنفيذية لهونغ كونغ التي تُتهم في الغرب بتمرير قوانين يقول معارضوها إنها تنهي فعلياً وضعَ الحكم الذاتي الذي كانت تتمتع به المدينة («دولة واحدة ونظامان»). ويبدو أن هذه القصة تُظهر استحالةَ استمرار المدينة المتفردة في إظهار ما وصفته «لام» ذات مرة بأنه «أفضل ما في الغرب وما في الشرق».
وإلى ذلك، تدرس ماك سويني كيف روّجت الصين لمبادرة متعددة الأطراف، التي تأسست في عام 2017 وتُعرف بـ«منتدى الحضارات القديمة»، وتتألف من بلدان يُنظر إليها على أنها ورثت «حضارات قديمة عظيمة» مثل بوليفيا ومصر والهند وإيران والعراق، من بين أخرى، ومخصصة لفكرة مفادها أن هذه الحضارات تتجاوز الزمن ولها أهمية «تظل حقيقية وباقية حتى يوم الناس هذا». وفي هذا الصدد، كتبت ماك سويني تقول: «في ظل هذا النموذج، لا يمكن عدم تغيير الثقافة فحسب، ولكن هناك أيضاً مجال صغير لتحويلها». ولذلك، فبإمكان الولايات المتحدة أن تزيّن مبانيها الحكومية بالعدد الذي تريده من الأعمدة الإيونية، لكنها لا تستطيع ادعاء ملكية هذا الإرث الثقافي الذين يعود إلى اليونان القديمة. فاليونان المعاصرة فقط يمكنها فعل ذلك. وبالمقابل، تشكّل القصةُ التي ترويها ماك سويني رفضاً للكيفية التي ينظر بها كل من التقليديين الغربيين ونظرائهم في الشرق الصاعد إلى التاريخ الثقافي.
وعلى الرغم من كل انتقاداتها لمفهوم الحضارة الغربية، فإن ماك سويني تشدّد على أن كتابها لا يمثّل هجوماً على الغرب، وأن قابلية هذا الأخير للانتقال والتحول هو ما يبدو أنها وجدته يستحق العناية والاهتمام فيه، باعتبارها أكاديمية بريطانية المولد وتنحدر من أصول إيرلندية وصينية. وحقيقة أن الغرب مفهومٌ يتحول ويتغيّر في المعنى من عصر إلى عصر ومن مكان إلى مكان، ميزةٌ وليست عيباً.وعليه، يتبين أن المقولة القديمة، الذي تُنسب بشكل خاطئ إلى المهاتما غاندي أحياناً، ومؤداها أن الحضارة الغربية «ستشكّل فكرة جيدة»، ليست انتقاداً ساخراً وإنما هي تحدٍّ حقيقي.

محمد وقيف

الكتاب: الغرب.. تاريخ جديد في أربع عشرة حياة
المؤلفة: نيشاه ماك سويني
الناشر: داتون
تاريخ النشر: 2023

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست لايسنسينج آند سيندكيشن»