في مقدمة كتاب «الببغاء وكوخ الإسكيمو»، وهو أحدث كتاب للكاتب الصحافي الأميركي ديفيد ليبسكي حول الاحتباس الحراري، يعترف هذا الأخير بأنه فكّر في أن يستهلّه بعبارات صادمة وشديدة الوقع على القارئ قبل أن يعدل عن الفكرة لاحقاً، وهي عبارات من قبيل: «إن هذه القصة قلبت حياتي رأساً على عقب، والآن حان دورك». والواقع أنه بوسع المرء فهمَ السبب، ذلك أن قراءة الكتاب أشبه بمشاهدة حادث سيارة بالعرض البطيء. والمتلقي يعرف الاتجاه الذي تتجه إليه الأمور.
والحق أن كتاب ليبسكي مشروع على قدر كبير من الطموح. وفيه يعيد هذا الأخير سرد قصة المناخ بأكملها، منذ ظهور الكهرباء إلى الوضع المتأزم والخطير الذي بتنا فيه اليوم. صحيح أن الموضوع مطروق وكُتبت فيه عشرات الكتب، بل ربما المئات، لكن ليبسكي، الوافد الجديد على مجال المناخ، أفلح في جعله موضوعاً جذّاباً بفضل أسلوبه الشائق، لكن أيضاً في جعله مثيراً للغضب بما يقتضيه واقع الحال. وهو لا يخفي ذلك ويقولها صراحة من البداية وبدون مواربة: إنه يرغب في أن يكون كتابه شبيهاً بسلسلة من سلسلات «نيتفلكس»، جذّاباً وآسراً للمتلقي.
والواقع أننا عادة ما نفكّر في الاحتباس الحراري باعتباره معضلةً حديثةَ الظهور لم تحدث إلا أثناء حياتنا، كما يقول ليبسكي. لكنه يذكّرنا بأن عالَم كيمياء سويدي كان أولَ من اكتشف في تسعينيات القرن التاسع عشر أن من شأن إحراق الفحم رفع درجة حرارة الكوكب، وبأن الناس كانوا يقرؤون في الصحف الأميركية عناوين أخبار عن درجات الحرارة غير المسبوقة منذ ثلاثينيات القرن الماضي.
عنوان الكتاب يحيل إلى لحظتين مفصليتين؛ الأولى كانت في عام 1956، حين نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» قصةً تتخيّل مآل القطب الشمالي في المستقبل؛ قطب شمالي يذوب جليده وثلوجه ويسوده مناخ استوائي، ثم تكتمل الصورة بـ«ببغاوات مزركشة الألوان تصيح من على أغصان الشجر». وكان عالم المحيطات روجر ريفيل قد درس، في وقت سابق من ذاك العام، كمية ثاني أكسيد الكربون التي أُطلقت في الجو خلال القرن السابق جرّاء حرق الوقود الأحفوري، وأشار -وفقاً لما نقلته مجلة «تايم» الأميركية- إلى أنه «قد يكون له تأثير عنيف» على مناخ الأرض، مضيفاً أننا قد نكون متجهين نحو تأثير منفلت لـ«الاحتباس الحراري».
أما اللحظة الثانية، فقد حدثت بعد 54 عاماً على ذاك التاريخ. ففي عام 2010، أنشأ حفدة السيناتور الأميركي جيمس إنهوف («جمهوري» عن ولاية أوكلاهوما) كوخَ إسكيمو من الجليد في شارع «الكابيتول مول» بمدينة ساكرامينتو، عاصمة ولاية كاليفورنيا الأميركية، ووضعوا لافتةً على سطحه مكتوب عليها: «بيت آل غور الجديد». ويذكر هنا أن إنهوف سياسي اشتهر بإنكار المناخ، وهو أيضاً الرجل الذي جلب كرةَ ثلج إلى قاعة مجلس الشيوخ في عام 2015، بينما يشتهر آل غور بكونه من أبرز النشطاء الداعين إلى مكافحة الاحتباس الحراري. وعلى ما يبدو، فإن حقيقة أن 2010 عادلت 2005 باعتبارها شهدت أعلى حرارة يتم تسجيلها على الإطلاق حتى تلك اللحظة لم تكن مهمة. فقد كان هناك ثلج يكفي لبناء كوخ اسكيمو. وبالتالي، فإن الاحتباس الحراري مجرد خدعة، ليس إلا. أو هكذا كان لسان حال المنكرين يقول.
المسافة بين الببغاء وكوخ الإسكيمو هي موضوع ليبسكي الرئيسي. لكن، كيف ابتعدنا كل هذا البعد عن ذاك الوعي المبكر بالواقع؟ الجواب بالطبع هو التسويق الجيد. ففي عام 2002، حثّ منظمُ استطلاعات الرأي الجمهوري فرانك لونتز المرشحين على استخدام مصطلح «تغير المناخ» من أجل التخفيف من النبرة السوداوية لمصطلح «الاحتباس الحراري»، وهي العبارة التي كان العلماء يستخدمونها. وكان يرغب في أن يوحي المصطلحُ الجديد بتحولٍ محايد، وألا يبعث على التفكير في وجود تهديد وجودي مرعب. ولئن كان لونتز قد ندم على ذلك لاحقاً، فإن المصطلح بقي وراج على نطاق واسع.

  • تغير المناخ.. بين الببغاء وكوخ الإسكيمو

ويعترف ليبسكي بأن كتاب «الببغاء وكوخ الإسكيمو» تأثّر كثيراً بمجموعة من كتب المناخ الرائدة في هذا المجال، مثل كتاب نعومي أوريسكس وإيريك كونوي «تجّار الشك» وكتاب إليزابيث كولبرت «ملاحظات ميدانية من كارثة». ولا شك أن قرّاء هذين المؤلَّفين سيجدون بعض المواد الواردة في كتاب ليبسكي مألوفة جداً، إلا أنه يمكن القول إن هذا الأخير برع في إعادة تجميعها، والنتيجة: كتابٌ مثير ومشوّق حول المناورات، والصفقات الجانبية، وانفراجات اللحظات الأخيرة.
ليبسكي نجح في جعل هذا الموضوع الذي قد يكون «جافاً» بطبيعته جذاباً وحيوياً من خلال إضفاء جرعة سخية من الدراما والفكاهة عليه. ونتيجة لذلك، يحصل القارئ على حكايات اعتداد بالنفس، وشهرة، ومال. ومن ذلك مثلاً قصة تأسيس القس سون ميونغ مون في عام 1982 لصحيفة «واشنطن تايمز»، التي سرعان ما أصبحت منبراً للتعبير عن المواقف اليمينية وإنكار تغير المناخ («ادعاءات المناخ تتلاشى تحت أضواء العلم المضيئة»، هكذا جاء في أحد عناوينها الرئيسة). وكانت «واشنطن تايمز» الصحيفة الصباحية المفضلة لدى الرئيس الأميركي رونالد ريغان.
ويقول ليبسكي إن منكري المناخ يعودون المرة تلو الأخرى، مع ظهور كل موجة جديدة من الوعي بظاهرة الاحتباس الحراري، مثل «رجال الإطفاء المظليين»، فيهبطون على مقاعد المقابلات في البرامج الإخبارية لإخماد مشاعر القلق قبل أن تكتسب كثيراً من الزخم.
وفي ختام كتابه، يتحول سرد ليبسكي إلى شركات التبغ الكبرى وسعيها إلى إخفاء الأدلة التي تؤكد على أن السجائر تسبب السرطان. فيُترك القارئ ليتساءل عن السبب، إلى أن يتضح أن الشخصيات التي دفعت لها شركةُ التبغ العملاقة «فيليب موريس» المالَ لإحباط جهود حظر السجائر هي نفسها التي تدافع عن شركات النفط الكبرى وتروّج لها. وبحلول الوقت الذي نسمع فيه عن مخطط في الثمانينيات يرمي لإنكار العلاقة بين الأسبرين والموت المفاجئ للأطفال جرّاء «متلازمة راي»، يتبدّد لدينا أي شك بشأن الاتجاه الذي تتجه إليه الأمور. فالإنكار حرفةٌ تمارسها قلّة قليلة -ولكنها موهوبة- من الأشخاص.
ولعل السؤال الملحّ بالنسبة للصحافيين المهتمين بموضوع تغير المناخ الآن هو: ما «الكلمات السحرية» التي من شأنها الإقناع والتأثير؟ الواقع أن لدينا الحقائق وحرائق الغابات لإثبات التغير المناخي، غير أن «التواصل المناخي» - أي كيفية جعل تلك الحقائق تخترق القلوب والعقول - يبدو دائماً أشبه بمعركة خاسرة. ذلك أن المنكِرين كان لديهم دائماً خطابٌ أكثر جاذبية، كما أنهم يدفعون المال بسخاء مقابل ذلك. غير أن ليبسكي، ومن خلال سرده السينمائي، يمتلك فرصة جيدة ومواتية لاستعادة بعض من ذاك الانتباه والتأثير الذي كان يستحوذ عليه منكرو المناخ.

محمد وقيف

الكتاب: الببغاء وكوخ الإسكيمو
المؤلف: ديفيد ليبسكي
الناشر: دبليو. دبليو. نورتون آند كومبني
تاريخ النشر: يوليو 2023

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «نيويورك تايمز»