في يونيو 2019 تنحَّت تيريزا ماي عن منصبها رئيسة لوزراء بريطانيا، بعد أن عجزت عن إقناع حزبها بدعم اتفاق الـ«بريكسيت»، أي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فاختار حزب المحافظين زعيماً جديداً ليحل محلها بشكل أوتوماتيكي. ومن العدم يظهر روري ستيورات، الأرستقراطي غريب الأطوار، خريج «إيتون» التي تُعد أعرق مدرسة داخلية في بريطانيا، وقد جاء في المرتبة الثانية ضمن قائمة المرشحين الأوفر حظاً، عقب حملة نشطة على وسائل التواصل الاجتماعي. أما المرشح الأوفر حظاً، فلم يكن سوى غريمه بوريس جونسون، وهو أرستقراطي آخر غريب الأطوار من خريجي مدرسة «إيتون» نفسها. 
تنافس خمسة مرشحين، بمن فيهم جونسون وستيوارت، في مناظرة نظّمتها هيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية «بي بي سي». لكن المتنافسين الآخرين الذين كانوا يشعرون بالإحباط إزاء شهرة ستيوارت السريعة والمفاجئة، انقلبوا عليه. وكان هذا الأخير منهكاً ومريضاً، وغير قادر على صد الهجوم. وفي لحظة استسلام لافتة، أزال ربطة عنقه وتنهّد. وبعد أيام قليلة على ذلك نُحّي من السباق.
والحقيقة أن ستيوارت ما كان ليهزم جونسون أبداً. فستيوارت، الذي كان جندياً ودبلوماسياً سابقاً، صنع اسماً لنفسه وهو يتنقل عبر أفغانستان، ثم وهو يشغل منصب حاكم محلي في العراق بعد غزوه عام 2003، وفي الأثناء ألّف اثنين من أكثر الكتب مبيعاً، غير أن نهجه الرومانسي التقليدي المحافظ، الذي نشأ عن هذه التجارب وعن طفولته في المدرسة الداخلية، كان سيصبح في غير محله داخل حزب المحافظين في نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة.
في مذكراته التي تحمل عنوان «كيف لا تكون سياسياً»، يعترف ستيوارت بأنه لم يكن ليستطيع بلوغ عضوية البرلمان على الإطلاق من دون قدرٍ غير قليل من الحظ. ذلك أنه اختار الترشح في وقت كان فيه الحزب بأمس الحاجة لمرشحين، بعد أن فقد العشرات من أعضاء البرلمان في فضيحة تتعلق بالنفقات، وخلال تجربة قصيرة سُمح فيها لكل الناخبين باختيار مرشح حزب المحافظين، وليس لأعضاء الحزب فقط.

وبعد فشله في الظفر بالزعامة، انتهى الأمر بستيوارت إلى ترك السياسة كلياً، باستثناء محاولة فاشلة ليصبح عمدة لندن. وبدلا من ذلك، اختار المشاركة في استضافة البودكاست السياسي الأنجح في بريطانيا، والعودة إلى الأوساط الأكاديمية كزميل في جامعة «يل» الأميركية.
والحق أن قصة ستيوارت عن سنواته التسع في البرلمان تتفوّق كثيراً على التبريرات الفارغة المعتادة التي يتوسّل بها العديد من السياسيين السابقين. ومن ذلك قدرته على الكتابة. ويُعد كتاب «كيف لا تكون سياسياً» كتاباً مسلياً وسريع الوتيرة وسهل القراءة من دون أن يكون متعالماً أو متعالياً. وعلى سبيل المثال، فإن وصفه الناجح لجونسون، «المكر الخفي في عينيه، الذي يوحي كما لو أن كائناً فضائياً استحوذ على جسده المطمئن وأخذ يحدّق من محجريه»، ليس سوى مثال واحد فقط على عبارات بليغة مماثلة تظل عالقةً في ذاكرة القارئ.
ولأن جونسون طرده من الحزب، فإن ستيوارت يطلق العنان لانتقاد معظم زملائه السابقين. ولا أحد منهم تقريباً يسلم من ذلك. وهكذا، فإذا كان جونسون هو الشرير الرئيسي، دجّالا عديم الأخلاق لا تحرّكه سوى المصلحة الذاتية، وفقاً لستيوارت، فإن ديفيد كاميرون ليس أفضل حالاً منه: بذلة فارغة من دون أي خبرة مهنية خارج السياسة، تفضّل الولاء والعلاقات العامة على الإنجازات المادية. أما فترة حكم ليزا تراس الكارثية التي دامت 49 يوماً، فكانت تُنذر بها تعليماتُها الفاشلة لستيوارت حينما كانت رئيسةً على إدارته. 
الكتاب يركّز على السياسات، ولعل أفضل فصوله هي تلك التي يحارب فيها ستيوارت، الذي رُقي لمنصب وزاري، دولةً بريطانيةً تعاني من التصلب، وإدارةً مدنيةً حذرةً ومتوجسةً إزاء السياسيين الذين يقومون كل بضعة أشهر بتعيين وزيرٍ جديدٍ لا يمتلك المعرفة أو الخبرة المطلوبة. فقد تولّى ستيوارت خمس مناصب في أربع وزارات خلال مدة أربع سنوات، وفي كل واحدة منها كان يجد الفوضى العارمة. ونكتشف بشيء من التفصيل مشاكلَ مثل الحماية غير الكافية ضد تلوث الهواء، وخططاً غير عملية ومليئة بالمصطلحات التقنية غير العملية للتنمية في أفريقيا جنوب الصحراء. لكن ستيوارت لا يملك الوقت الكافي لفعل شيء حيالها قبل نقله إلى منصب جديد. 
وتُعد وزارة العدل بشكل خاص معقلاً للعجز، وفقاً للكتاب. فبصفته وزيراً للسجون، واجه ستيوارت سجوناً تعاني قلة النظافة والاكتظاظ واستشراء المخدرات والعنف. وفضلاً عن ذلك، فإنه لا توجد أموال كافية من أجل التحسين، وروح ضباط السجن المعنوية في الحضيض. ويمضي ستيوارت وقته في محاولة تحسين أوضاع أسوأ 10 سجون عبر انتهاج نهج «الحب الصارم»، محققاً في ذلك بعض النجاح -- على الرغم من أن أياً من المشاكل الأساسية لم تُحل، بل يمكن القول إنها باتت اليوم أسوأ مما كانت عليه. 
واللافت هنا أن ستيوارت نفسه عبارة عن فوضى مذهلة من التناقضات، فهو من جهة يشعر بالعار وعدم الرضا عن الذات، لكنه من جهة ثانية يبدو متأكداً من أنه يجب أن يتولّى وظيفةً عليا. كما أنه يكره التنازلات القذرة في الحياة السياسية، لكنه يجعل نفسَه بارعاً فيها إذ ينجح في فرض نفسه وشقّ طريقه نحو عضوية مجلس الوزراء قبل فشله في الأخير. كل هذه التوترات تجعل منه شخصية مركزية قوية. توترات لا شك أنها ستكون مفيدة أيضاً لأي شخص يفكر في بدء حياة سياسية، باعتبارها إضاءات على أشياء مثل  (الكرامة، المبادئ) التي يضطر المرء للتضحية بهما  من أجل النجاح في الحياة السياسية المعاصرة. 

محمد وقيف

الكتاب: كيف لا تكون سياسياً
الكاتب: روري ستيورات
الناشر: بينغْوِن برِس
تاريخ النشر: سبتمبر 2023