السلام بمعناه السياسي (والعسكري) يمرّ حالياً بأسوأ أيامه في منطقة الشرق الأوسط، لكن هذا لا يمنع النظر في الشأن المناخي، كونه مرتبطاً بشكل وثيق بهدفين بالغي الأهمية: سلام البشرية وسلامة الكوكب. لذلك بات «مؤتمر الأطراف» استحقاقاً دولياً سنوياً، وهو ينعقد هذه السنة، بتسميته المعتمدة «كوب 28»، في دولة الإمارات وفي موعده المحدّد. هذه هي النسخة الثامنة والعشرون لهذا المؤتمر منذ أصبح احترار الأرض مصدر قلق للدول والشعوب كافةً، ولم يعد ممكناً تأجيل البحث في أسبابه وسبل تخفيف أضراره ليس فقط للتخفيف من الانبعاثات الكربونية أو مواجهة الفيضانات والحرائق وغيرها من الظواهر الجوية المتطرّفة، بل أيضاً في تسببه بالأوبئة والأمراض، أي بالتالي تأثيره في صحة البشر على صُعد عامة وخاصة. كانت تقارير لمنظمة الصحة العالمية أشارت إلى أن تسعة وتسعين في المئة من سكان العالم يتنفسون هواءً ملوّثاً، لكن هناك تفاوتاً بنسبة التلوّث بين أمكنة وأخرى. كما أن الخبراء استفاضوا في شرح كيف أن الحرارة متزايدة الارتفاع ستغيّر الكثير من طرائق الحياة كما نعرفها الآن.
إذا كان نجاح أو فشل أي مؤتمر للأطراف يقاس بأهمية التقدّم الذي يحرزه في الاستجابة لتحدّيات المناخ، وبجهد الدولة المستضيفة والمنظمة وقدرتها على الدفع نحو تحقيق الأهداف، فإن الإمارات استطاعت أن تجعل «كوب 28» ينطلق بنجاح تاريخي مهم مع تبنّي قرار تشغيل صندوق «الخسائر والأضرار» المناخية للتعويض على الدول الأكثر تضرّراً. ومعروف أن هذا الصندوق أقرّ إنشاؤه مبدئياً، بكثير من الصعوبة وبعد ضغوط من دول الجنوب، في «كوب 27» في شرم الشيخ، ومع ذلك ظلّت دول الشمال تسوّف في تحديد خطوطه العريضة، لكن الجهود الإماراتية توصّلت سريعاً إلى تحقيقه وافتتحت تمويله بمئة مليون دولار، ما اجتذب تمويلات أخرى فاقت نصف مليار دولار كخطوة أولى في رحلة الألف ميل نحو الهدف الذي سبق تقديره بمئة مليار دولار، وذُكر وقتها أنه أقلّ من التعويضات المفترضة.
سيغدو «كوب 28» محطة فارقة في مسار استجابة تحدّيات المناخ، لأن الإمارات بادرت إلى تحفيز التمويل المناخي عبر صندوق أعلن عنه صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، حفظه الله، بقيمة ثلاثين مليار دولار بهدف جذب 250 ملياراً قبل نهاية هذا العقد إلى «استثمارات تركّز على التحوّل في الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية». وهذا نموذج لدولة غنية جدّية في مواجهة مخاطر التغيّر المناخي، فيما لا يزال التلكؤ سيد الموقف في سلوك الدول الغنية الكبرى، وبالأخص تلك المسؤولة عن أكبر الانبعاثات فهي تريد معالجة الكارثة بأقلّ تكلفة.
بطبيعة الحال لا تزال هناك ملفات شائكة لا بد للمؤتمر أن يفتح فيها نوافذ حلول تدريجية ممكنة إذا تم الالتزام بمراحلها. فهناك تحدّي الانتقال الطاقي، إذ لا يزال التخلّي الكلّي عن الوقود الأحفوري قراراً صعباً في هذه المرحلة.
ومنذ عامين بدأ التركيز على الحدّ من انبعاثات غاز الميثان كأحد الضرورات الحاسمة، كما بالنسبة إلى ثاني أوكسيد الكربون. ثم أن التغيّرات المناخية فرضت أيضاً التركيز على النظم الغذائية العالمية باعتبارها «مسؤولة عن نحو ثلث الغازات الدفيئة المنبعثة»، وفي الوقت نفسه بات إنتاج الغذاء وتوزيعه مهدّداً بالجفاف، وهو أحد تداعيات التغيّر المناخي. وهكذا يبدو ملف المناخ بلا حدود و«لا يمكن أخذ استراحة فيه» بحسب مسؤولة برنامج البيئة في الأمم المتحدة. لكن رهانَيْ 2030 (زيادة استخدام الطاقات المتجددة) و2050 (خفض الاعتماد على الوقود الأحفوري) سيبقيان ملحّين على حكومات العالم، فالمشكلة لا تتعلّق بدولة واحدة.
*كاتب ومحلل سياسي- لندن