عود علاقة الكاتب والصحفي عبد الله ميزر بالإبل إلى بضع سنوات خلت، حيث بدأ كتابة مقالات في الحقل السينمائي والثقافي لصالح مجلة «الإبل» الصادرة في أبوظبي وقتَها، وبالذات بعد المقالة التي نشرها حول فيلم «دموع ناقة» الصادر عام 2004، حيث بدأ قراءة بعض الكتب حول لإبل، ومشاهدة أفلام أخرى حولها، والالتقاء برعاة الإبل ومدربي الجمال، وراسل أشخاصاً آخرين لهم علاقة بهذا المجال.

ومع اتساع قراءاته ومشاهداته ومعارفه كان ميزر يزداد اندهاشاً بهذا العالم الذي يحمل في جوهره تفاصيل ومفارقات وتعقيدات كثيرة، ليكتشف الجانب الإنساني الكامن في الإبل، مستقرئاً سلوكيات بشرية إزاء المواقف الإبلية المتنوعة. يتألف الكتاب من أربعة أجزاء: صورة الإبل في السينما، وحوارات، وحكايات عن الإبل والبشر، وقراءات في كتب عن الإبل.

في الجزء الأول يقدم المؤلف مشاهدات سينمائية ووثائقية، يراجع من خلالها صورة الإبل وعلاقتها برعاتها، والمشاعر التي تنتاب الإنسان في البيئات الصحراوية القاسية، سواء في منغوليا أو أستراليا أو الهند أو بلوشستان أو أفريقيا. وتحت عنوان «سيدة الإبل» يطوف بنا المؤلف حول فيلم «مسارات» الدرامي الصادر عام 2013 لمخرجه جون وران، بطولة كل من ميا واسيكوسكا وآدم درايفر، وهو مقتبس من مذكرات تحمل العنوان ذاته للكاتبة الأسترالية روبن ديفيدسون التي دونت الرحلة التي قامت بها في غرب أستراليا حين كانت في العشرينيات من عمرها، حيث قررت أن ترمم نفسها في رحلة طويلة تعبر خلالها قرابة ثلاثة آلاف كيلومتر داخل الصحراء الأسترالية الشاسعة والقاحلة، رفقة أربعة جمال وكلب.

وقد تطلب منها التحضير للرحلة التمرن على التعامل مع الجمال، حيث تعلمت كثيراً من مدربي الإبل الأفغان المسلمين الذين هاجروا إلى أستراليا أساساً بغية قيادة الإبل والاعتناء بها. لقد أحبت روبن جمالها كحب أم لطفلها، وكانت تنام بجانبها، وتنغمس في الحديث معها، وأحياناً تبكي عليها منتحبة بتأثر شديد.. وهو ما يتجلى من خلال تتابع جميل للقطات الفيلم. لكن كيف وصلت الإبل، وهي حيوانات تنتمي للصحراء العربية، إلى أستراليا؟ سؤال يجيب عنه فيلم وثائقي بعنوان «تاريخ رعاة الإبل في أستراليا»، يعرفنا عليه المؤلف، قائلاً، إنه يقدم قراءة سينمائية تعريفية مكثفة حول كيفية وصول الإبل إلى أستراليا، ومن كان يرعاها، وكيف أن هذه المخلوقات المعروفة بقوة تحملها وهدوئها، كانت أفضل السفن والمراكب عبر الصحراء الأسترالية الشاسعة.

وتتعمق العلاقة الرحبة بين الإنسان والإبل مع التواصل اليومي، وهو ما يجسده الفيلم الوثائقي «آسكوا» (الجميلة) ، حيث نرى كيف أصبحت الناقة آسكوا صديقةً ورفيقة درب للبلوشي «كنار» الذي لا يستطيع تخيل قساوة حياته من دون هذه الناقة العربية الأصل التي ولدت لدى والده في بلوشستان بعد نُقل والداها إلى هناك من الجزيرة العربية.

وتحضر في الفيلم الكثير من الحوارات الجميلة واللحظات الدافئة، حيث يتحدث كنار متذكراً كلمات والده الراحل: إن تهتَ في الصحراء يا كنار، فإن آسكوا ستقودك إلى الطريق الصحيح، لا تقلق أبداً يا بُني واترك الأمر لآسكوا، فهي ستأخذك إلى البيت من تلقاء نفسها. وفي صحراء طهار أو الصحراء الهندية الكبرى، تعيش قبائل أهم ما يميزها هو الاهتمام بالإبل، ويتضح ذلك من الفيلم الوثائقي «أبو الإبل»، وهو من تأليف وإخراج جيروم جسيل أوفرت الذي يطلعنا على إحدى قبائل هذه الصحراء وهي قبيلة الرهبري التي ترى أنها أُرسلت إلى هذه الأرض لتكون في خدمة الإبل، حيث تشكل هذه المخلوقات عصب حياتها.

كما يعرفنا المؤلف على فيلم «الجمل السماوي»، لمؤلفه ومخرجه يوري فتنج الذي يصور الحياة في منطقة منعزلة من صحراء روسيا، من خلال التركيز على رعاة الإبل فيها. والعلاقة بين الإنسان والإبل في هذا الفيلم علاقة استثنائية وحيوية ودافئة، ويجسد ارتباط أفراد إحدى الأسر البدوية في سهول كالميكا (جنوب روسيا) بناقتها (مارا) التي يعاملونها لو أنها فرد من أفراد العائلة. ويدخل فيلم «باركيدا» الصادر عام 2019 الجِمال إلى الدراما التأميلية الهندية لأول مرة، إذ يشرح لنا عبد الله ميزر أن حبكة هذا الفيلم تستند أساساً إلى قصة البطل راثنام وجمله الصغير، بطريقة تعكس بوضوح الرابطة الروحانية المشتركة بين الإنسان والإبل.

وأخيراً يدور الفيلم الوثائقي الدرامي «دموع ناقة» حول مشاعر الأمومة والتراث المنغولي الصحراوي، من خلال التحدث عن قصة عائلة بدوية مؤلفة من أربعة أجيال تمتلك 60 رأساً من الإبل. لكن العائلة سيصيبها الهم بعد أن تعسرت الناقة «تيمي» في وضع مولودها، وعندما وضعته بصعوبة كان حواراً أبيض يختلف عن باقي الإبل، مما شكل صدمةً سيكولوجية للناقة الأم التي بدأت تنفرد من مولودها مبتعدةً عنه رافضةً إرضاعه. وبعد استنفاد كل الوسائل، قررت العائلة اللجوء إلى طقس قبلي قديم وهو استخدام الموسيقى والغناء والمسح على ظهر الناقة ورقبتها بطريقة ناعمة كي تتقبل صغيرَها تحت الإيقاعات الموسيقية العذبة والأهازيج الغنائية الأسطورية. يظهر التوتر على الناقة الأم، لكن بتأثير الموسيقى على أسماعها، والحنان الذي لمسته من أصحابها، تستسلم لصغيرها وتنهمر الدموع من عينيها، وكأنها كانت ترغب في إطعامه منذ ولادته، إلا أن شيئاً داخلها كان يمنعها ويبعدها دون إرادة منها.

وينتقل بنا المؤلف إلى الجزء الثاني من كتابه، وقد ضمّنه بعض الحوارات مع رعاة ومدربي الإبل الذين أدركوا أهمية هذه المخلوقات في حياة البشر، والإمكانات الاستثنائية التي يمكن أن تقدمها على مستويات عديدة. ومن ذلك حوار مع الأسترالي أوزبورن روسل الذي خاض رحلة طويلة حضَّر لها طيلة 13 عاماً، واستغرقت منه سنتين، تاركاً وظيفتَه كأستاذ جامعي ليتفرّغ لتدريب الإبل مع زوجته تارا.

أما الحوار الثاني فأجراه المؤلف مع هانه بيرس التي اشتهرت في أستراليا برعايتها الإبل، واستخدامها تقنيات تخاطب الإبل بلغة الجسد. فيما كان الحوار الثالث مع الأميركية كلارك مكنيكول التي عانت من مرض، ثم اكتشفت أن جزءاً من علاجها هو شرب حليب النوق، فألفت كتاباً عن تجربتها.

ويحتوي الجزء الثالث من الكتاب على نماذج لدور الإبل في تغيير مجتمعات مهمشة في أفريقيا وآسيا، وكيف ساعدت على تحسين مواردها الاقتصادية، ومن ذلك أن تغير المناخ أثر على حياة الناس في كينيا وأجبرهم على العودة إلى تربية الإبل لكسب لقمة عيشهم، كما لعب حليبُ النوق دوراً في تعزيز مكانة المرأة هناك. ويستعرض المؤلف جوانب من الانتهاكات التي تعرضت لها الإبل، مستشهداً بتقرير صحفي للهندية بارول أغراوال حول الاعتداءات بحق الإبل في بلادها، وكيفية إلحاق الأذى بمشاعر مربيها في إقليم راجستان.

وفي فصل بعنوان «همسات الإبل في كاليفورنيا» يتطرق المؤلف إلى قصة الأميركي جيل ريغلز ودوره في تغيير الصورة النمطية السلبية عن الإبل في الولايات المتحدة. وكان أقدم مؤلَّف عن الإبل في الولايات المتحدة، كما يذكر عبد الله ميزر في الجزء الرابع من كتابه، للدبلوماسي الأميركي جورج مارش، وقد ألفه في عام 1856. ونجد ملخصاً وافياً حوله في «رحلة في عوالم الإبل والإنسان»، بالإضافة إلى كتب غربية أخرى تناولت الطبيعة الجسدية الخاصة بالإبل، وقد ألفها باحثون في مجال الإبل والثروة الحيوانية.

وأخيراً يختم المؤلف كتابه بتقديم ملخص وجيز ومركز حول «موسوعة العائلة الإبلية في دول وقارات العالم»، لمؤلفها مرزوق بن محمد العنة، والتي تشكل أهمية كبيرة في حقل رعاية الإبل وتربيتها، إلى جانب الكتب الأخرى والأعمال السينمائية والإعلامية والعلمية العديدة.. التي ساهمت كلُّها في تغيير الصورة النمطية حول الإبل.

محمد المنى

الكتاب: رحلة في عوالم الإبل والإنسان.

المؤلف: عبد الله ميزر

الناشر: دار المحيط للنشر تاريخ النشر: 2023