في غياب اتجاهات واضحة للموضة، وأنواع موسيقية جديدة وراديكالية تساعد على تحديد الزمن، تمثلت أسهل طريقة لتحديد الزمن التاريخي في القرن الحادي والعشرين في رصد تبني الجمهور للتطبيقات واستهلاكه خدمات الإنترنت الجديدة. ولعل معظم الأشخاص ممن تقل أعمارهم عن 50 عاماً يتذكرون العقدين الماضيين باعتبارهما يتحركان في خط تاريخي مستقيم، من عصر المدونات إلى تطبيقات «ماي سبيس»، و«فيسبوك»، و«يوتيوب» فـ«تويتر» و«تمبلر» و«إنستغرام»، ثم «فاين»، و«تيك توك» وغيرها. 
بيد أن سرد هذه التحولات والتطورات يشكّل تحدياً حقيقياً. ومثلما تقول الكاتبة والصحافية تايلر لورينز في مستهل كتابها الأول، فإن كتابة «التاريخ الكامل للإنترنت» مهمة موسوعية مستحيلة. ولهذا فإنها اكتفت بتلخيص العقدين الماضيين في «تاريخ اجتماعي لوسائل التواصل الاجتماعي»، مركزةً على كيف أدت منصات التكنولوجيا والجماهير العالمية، وطبقة جديدة من «المبدعين» إلى نشوء ثقافة إنترنت معاصرة. وفي الأثناء، ترصد المؤلفة صعود أشكال جديدة من المشاهير على الإنترنت، خلال ربع القرن الماضي في ما يشبه التسلسل التاريخي، متبعةً في ذلك مقاربة صحفية في التعامل مع التاريخ الثقافي، إذ تُجري مقابلات مع عدد من أشهر مستخدمي المواقع والتطبيقات الإلكترونية (أو على الأقل المؤثِّرين فيها). وبالتوازي مع ذلك، تقدِّم وصفاً شاملاً للإنترنت الحديثة، من وجهة نظر أولئك الذين وجدوا طرقاً للاستفادة من الفرص التي تتيحها.

وترى لورنز أن التغيرات الاجتماعية التي نتجت عن هذه المنصات، وعليها تشكّل «ثورة» على اعتبار أن تكنولوجيا الاتصالات جلبت «التغيير الأعظم والأكثر تأثيراً في الرأسمالية الحديثة»، ما أدى إلى هدم «الحواجز التقليدية» وتدمير «المؤسسات القديمة». وحسب المؤلفة، فإن آثار هذه الثورة كانت إيجابيةً للغاية على اعتبار أنها مكّنت المهمَّشين، وأتاحت للأشخاص الأكثر إبداعاً فرص عمل مجزية. 

  • الإنترنت.. قصة الشهرة والتأثير والقوة
  • واستناداً إلى خبرتها الواسعة في هذا المجال باعتبارها كاتبة عمود مهتمة بشؤون التكنولوجيا والثقافة في صحيفة «واشنطن بوست»، تدافع لورينز عن فكرة أن المبدعين هم الذين ساهموا حقاً في تشكيل ثقافة الإنترنت، وليس منصات التكنولوجيا إذ تقول: «إن مبدعي الإنترنت لا يقومون بإنتاج المحتوى فحسب، ولكنهم يحدّدون أيضاً معايير الوسائط الخاصة بهم وديناميتها». ووفقاً لها، فإن رؤساء شركات التكنولوجيا لم يكن يخطر على بالهم أبداً أن الجماهير ستفضّل المحتوى الذي يصنعه المستخدمون على المحتوى «مدفوع الثمن»، غير أن أولئك الذين يصنعونه استمروا في الدفع بالمنصات إلى الأمام، وإثبات أن الرؤساء على خطأ. فازدهرت التطبيقات التي عقدت شراكات مع مستخدميها الأكثر إبداعاً، وخاصة «يوتيوب»، في حين شاهد رؤساءُ شركات التكنولوجيا الذين حاربوا أبرز مستخدمي منصاتهم وظائفَهم وهي تندثر، على غرار رؤساء منصة «فاين». 

ومما لا شك فيه أن الإنترنت مثلت قوة اجتماعية وثقافية كبيرة جداً، ولكن هل يمكن القول إن تاريخها يرقى إلى ثورة حقيقية؟ الواقع أن كثيراً من الشباب والمراهقين يقضون فترات طويلة في مشاهدة مقاطع فيديو على «يوتيوب»، و«تيك توك» و«إنستغرام» عوضاً عن مشاهدتها على التلفزيون والسينما. ووفقاً لمقياس لورنز الخاص المتمثل في «الشهرة والتأثير والسلطة»، فإن المبدعين باتوا يحظون بمنزلة رفيعة كمجموعة اجتماعية، والمؤثرون يؤثرون في الناس بالفعل. وبفضل مجموعة متنوعة من الخيارات التي باتت تتيح التكسب من هذا النشاط، منحت منصات التكنولوجيا هذه «عدداً متزايداً من الأشخاص فرصة للاستفادة بشكل مباشر من عملهم أكثر من أي وقت آخر في التاريخ». 
ولا شك أن فهم أسباب انجذاب المعجبين إلى بعض صانعي المحتوى قد يساعد على فهم السؤال الأكبر المتعلق بمعرفة ما إن كان أي شيء قد تغيّر بالفعل. ومن الواضح أن اضطراباً طال الثقافة الشعبية الخاصة بالشباب والمراهقين، غير أنه من الصعب الحديث عن ثورة حقيقية، لأن هذه الأخيرة كانت ستتضمن تحولاً كبيراً في الوضع في كل المجتمع. 
وعموما، تقدِّم لورينز سرداً تاريخياً واضحاً ومقنعاً لكيف أخذت الأموال تتدفق على محتوى الفيديوهات القصيرة التي يصنعها الهواة، ولكنها لم تستطيع التدليل على أننا شهدنا ثورة حقيقية بالفعل. والواقع أن طبقة مشاهيرنا الأرستقراطية لم تكن يوماً أقوى مما هي عليه اليوم، إذ بات الناس يقبلون بكثرة على مبدعي الإنترنت بحثاً عن الترفيه، ولكنهم لا يعتبرونه مصدراً مهماً للفن أو الجمال. والجدير بالذكر هنا أن «الحضور المكثف على الإنترنت»، في اللغة المتداولة بين المنتسبين إلى هذا المجال، تُعد عبارةً قدحيةً إذ تحيل على المتابعة الطويلة والمفرطة للإنترنت وثرثرة المبدعين التي لا يفهمها إلا القلة. كما تبيّن المؤلفة كيف كافح مبدعو الإنترنت للحصول على مقابل مادي نظير شغفهم ونباهتهم وجنونهم، وإنْ كان كتابها يترك القارئ من دون إجابة حاسمة بشأن السؤال المتعلق بمدى أهميتهم الاجتماعية.

محمد وقيف

الكتاب: كثير الحضور على الإنترنت: قصة الشهرة والتأثير والسلطة على الإنترنت
المؤلفة: تايلر لورينز 
الناشر: سايمون آند شوستر
تاريخ النشر: أكتوبر 2023