لا شك في أن إنجازات الحضارة الحديثة وإنجازاتها العلمية المعاصرة قد تجاوزت بارتفاعات فلكية كل نقاط الأوج والذروة التي وصلت إليها الحضارة العربية الإسلامية في عصور ازدهارها، ومن ثم فإن فكرة البدء حالياً من حيث انتهى الأجداد تعد حماقة مثيرة للضحك، ولا سبيل أمام عرب اليوم سوى الانطلاق من آخر محطة بلغها قطار الحضارة الصناعية المعاصرة.

ومع ذلك فلا غنى لعرب اليوم عن الإحاطة بتراثهم العلمي والفكري، كأمة قدمت لمسيرة الحضارة البشرية أعظم الإسهامات والإنجازات، ومن شأن هذه الإحاطة أن تكسب الأجيال العربية الحاليةَ شيئاً ضرورياً من الثقة بالذات وهي تخوض سباقاتها العلمية والتكنولوجية لمجاراة الأمم المتقدمة.

وفي كتابه «عباقرة علماء الحضارة العربية والإسلامية»، يحاول الباحث والأديب والمترجم محمد غريب جودة رد الاعتبار لهذه الحضارة ببيان منجزاتها التي مهدت لانطلاقة الغرب الكبرى في العصر الحديث، قائلا إن مما يميز هذه الحضارة أن قاعدة انطلاقها كانت الدين الإسلامي نفسه بما يقدمه من طاقة تثير كوامن النفس البشرية وما يحض عليه من قِيم النبل والتسامح والأمانة والنزاهة، فهذا جعلها تتقبل الإسهامات الواردة من الحضارات الأخرى وتسمح بمشاركة الغير، كما جعل روادَها ينزعون إلى الدقة والجدية والبحث عن الحقيقة أينما وجدت. وعلى هذا الأساس من روح التعايش والتعاون بين الشعوب والعقائد والثقافات داخل حدود المجتمع الذي صهره الإسلام، ولدت حضارةٌ جديدة، متنوعة من حيث أصولها ومبدعيها، لكنها تحمل البصمة المميزة للعروبة والإسلام.

وقبل مرحلة دخولها في حالة من الجمود الفكري والتخلف العلمي كانت الحضارة العربية الإسلامية قد بدأت تغذي أوروبا بأنوار المعارف العلمية والفكرية. ففي أيبيريا وفرنسا وإيطاليا وسويسرا، كان الاحتكاك المباشر بين العرب والأوروبيين مثيراً لدهشة هؤلاء الأخيرين الذين بدأوا يتلقون علوم العرب وثقافتهم وأنماط حياتهم بكثير من الإعجاب والاندهاش، وبدأ الطلاب منهم يتوافدون على الأندلس وينهلون من معين علوم العرب، لاسيما في جامعة قرطبة ومدرسة طليطلة ومدرسة سالرنو.. وغيرها من مراكز العلم والتعلم والترجمة التي كانت مداميك حيوية للنهضة الأوروبية.

ويستعرض الكتاب بكثير من التفصيل إنجازات الحضارة العربية الإسلامية في دوائر العلوم الرياضية والطبيعية والإنسانية والفنون والآداب. ففي علم الحساب على سبيل المثال، نقل المسلمون الأرقام الهندية التسعة وطوروها وأضافوا إليها الصفر، ووضعوا العمليات الحسابية، وهو أحد أكبر الفتوح العلمية التي أسهمت في بناء صرح الحضارة الحديثة. ثم ابتكروا الكسور والعلامات العشرية وأسسوا علم الجبر وربطوه بالهندسة، ومهدوا لاكتشاف حساب اللوغاريتم الذي يعد ثورةً في العلميات الحسابية، إلى جانب علم المثلثات الذي أضافوا إليه وطوروه بهدف تطوير بحوثهم في مجال الفلك. كما قاموا بإجراء الأرصاد المختلفة وبتطوير آلات الرصد الفلكي، واستطاعوا تحقيق إنجازات فلكية عظيمة، مثل تعليل كسوف الشمس وخسوف القمر، والتمييز بين الكواكب والنجوم وقياس محيط الأرض ورصد الاعتدالين الربيعي والخريفي وتعيين ارتفاع القطب.. إلخ. وفي مجال العلوم الفيزيائية، طور العربُ علمَ المناظر المعروف حالياً بعلم الضوء أو علم البصريات. كما أبدعوا في علم الكيمياء واستطاعوا تحضير العديد من المركبات الكيميائية. وفي علم الجيولوجيا، وضع العلماء المسلمون الأساسَ الأول لعلم المعادن وأنجزوا أول تصنيف صحيح للمعادن والأحجار.

أما الطب العربي، فبلغ مرتبة عظيمة من التطور في عصره تؤكدها الإنجازات التي تحققت على أيدي الأطباء المسلمين والتي لم يسبقهم إليها أطباء أي حضارة أخرى. ثم يستعرض الكتاب أبرز العلماء والعباقرة في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، ممن حفروا أسماءهم في تراث الحقول العلمية على اختلافها. ومن هؤلاء جابر بن حيان، العالم والفيلسوف الذي يعد المؤسس الأول لعلم الكيمياء، ومحمد بن موسى الخوارزمي الذي أسهم إسهاماً عظيماً في مسيرة الحضارة البشرية من خلال تطويره علم الحساب ووضعه أسسَ علم الجبر، وأبو يوسف يعقوب الكندي الذي كان فيلسوفاً لكنه برع في الطب والفلك والهندسة والطبيعيات (الفيزياء). وكذلك ثابت من قرة الذي بزغ نجمه في مجالات الفلك والرياضيات والطب، وأبوبكر الرازي أستاذ العلوم الطبية وأعظم الأطباء المسلمين قاطبةً، وأبو عبدالله محمد البتاني أكبر علماء الفلك والرياضيات المسلمين، ثم أبو القاسم الزهراوي أكبر جراح عرفه العالم حتى عصر النهضة الأوروبية، وأبو الوفاء البوزجاني كواحد من أعلام العلماء في مجال العلوم الرياضية والفلكية. وكذلك بن يونس المصري الذي يعد من أكبر علماء الفلك في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية، والحسن بن الهيثم أحد أفذاذ عباقرة علماء الطبيعة والرياضيات والفلك، وأبو الريحان البيروني الذي يعتبروه مؤرخو العلوم أعظم عقلية علمية عرفتها البشرية على الإطلاق. وكذلك بن سيناء ثاني أكبر الأطباء المسلمين بعد الرازي وأعظمهم تأثيراً في العلوم الطبية الغربية، وعمر الخيام عالم الرياضيات العظيم الذي غلبت عليه شهرته كفيلسوف وكشاعر، وأبو مروان بن زهر أحد أعظم أطباء العالم باسره، والشريف الإدريسي أكبر جغرافي على الإطلاق حتى عصر الكشوف الجغرافية الأوروبية أوائل القرن السادس عشر الميلادي، وأبو الفتح عبد الرحمن الخازني أحد كبار العلماء في مجالات الفيزياء والميكانيكا والفلك، وعبد اللطيف البغدادي صاحب الإنجازات المهمة في مجال الطب والتشريح. وكذلك بديع الزمان بن الرزاز الملقب الجزري، مهندس الميكانيكا وصاحب الإنجازات العظيمة في الفنون الهندسية والصناعات الميكانيكية، وشهاب الدين التيفاشي أحد نوابغ علم الجيولوجيا وأحد مؤسسيه، وأبو البيطار أكبر العشابين وعلماء النبات في تاريخ الإسلام، ونصير الدين الطوسي أحد كبار علماء الفلك والرياضيات ومؤسس أكبر مرصد فلكي عرفته البشرية قبل العصر الحديث، وبن النفيس أكبر الأطباء العرب وصاحب الاكتشافات العظيمة في تاريخ الطب، وبن الشاطر عضو مدرسة دمشق للفك وأحد كبار علماء الفلك الذين قدموا للعالم تصورات جديدة للكون والفضاء، وجمال الدين الدميري صاحب الموسوعة الكبرى «حياة الحيوان»، وجمشيد الكاشي عالم الفلك والرياضيات البارز الذي كان أول من أدخل الصفر والكسور في العلميات الحسابية.

وكذلك أحمد بن ماجد الخبير العبقري في فنون الملاحة وعلوم البحار، وداوود الأنطاكي صاحب أشهر المؤلفات في التداوي بالعقاقير الطبية.

وأخيراً بهاء الدين العاملي آخر كبار علماء الرياضيات والفلك في العصر الذهبي لتاريخ الحضارة العربية الإسلامية.

ويختم المؤلف كتابه الاسترجاعي حول التاريخ العلمي والطبي للحضارة العربية الإسلامية، بـ«معجم علماء» هذه الحضارة، مقدماً فيه نبذات مختصرة عن عدد آخر من العلماء الأفذاذ، مرتباً أسماءهم على حروف المعجم.

محمد المنى

الكتاب: عباقرة علماء الحضارة العربية الإسلامية.

المؤلف: محمد غريب جودة .

الناشر: دار الشاهد تاريخ النشر: 2022