شاركت مؤخراً بنواكشوط في لقاء بحثي تشاوري هام بين خبراء من دول الساحل الإفريقي والمغرب العربي برعاية وزارة الخارجية الفلندية وإحدى المؤسسات الأهلية الفلندية. وقد هيمن على اللقاء إشكال العلاقات المعقدة بين بلدان المنطقة وشركائها الدوليين بعد موجة الانقلابات العسكرية التي عرفتها المنطقة وما تلاها من اختراق روسي واضح لإقليم الساحل الإفريقي. 
لقد اعتبر بعض المتدخلين أن السياسات الغربية في إقليم الساحل فشلت في تحقيق المطالب الأمنية للبلدان والسكان، ولم تكن الانقلابات العسكرية الأخيرة سوى مظهر واضح لهذا الفشل الذي تحول إلى نمط من انهيار وتفكك الكيانات القومية المحلية وتحلل المؤسسة العسكرية في مواجهة حركات الإرهاب التي غدت تسيطر على مناطق واسعة من المساحة الإجمالية لبلدان الساحل. 
لقد عبر وزير الخارجية المالي، عبدالله ديوب، عن هذه الوضعية بقوله إن المهمة العاجلة المطروحة في إقليم الساحل هي الحفاظ على الدول بدلاً من الاستمرار في أنظمة ديمقراطية شكلية عاجزة، مدعومة من الخارج.
بيد أنه لا بد هنا من التمييز الدقيق بين ثلاثة مكونات في هذه الأزمة الديبلوماسية: فرنسا وأوروبا والغرب. ففرنسا فهي الدولة المستعمرة السابقة في إقليم الساحل بكامله (بالإضافة إلى أربعة من بلدان المغرب العربي)، وقد كان لها حضور عسكري قوي في جل الدول الساحلية، تَركز سابقاً في الدول الثلاث المحورية (مالي وبوركينا فاسو والنيجر). لكن بعد الانقلابات الأخيرة في هذه البلدان، انتهى الحضور العسكري لفرنسا وانحسر نفوذها السياسي. ولا مناص من الاعتراف بأن العلاقات بين فرنسا وجل دول الساحل وصلت اليوم إلى أفق مسدود. وقد قال باحث نيجري من نشطاء المجتمع المدني في بلاده، خلال اجتماع شبكة الساحل والمغرب العربي: «لقد أوهمتنا فرنسا سنة 1960 أنها منحتنا الاستقلال، لكنها حافظت على جوهر الحضور الاستعماري من نظام نقدي مرتبط بعملتها إلى لغتها التي حولناها إلى لغة رسمية وحيدة للإدارة والتعليم، بالإضافة إلى المنظمة الدولية الفرانكفونية التي تتدخل في أدق شؤوننا الداخلية وإلى القواعد العسكرية الدائمة على أرضنا». إن ما تعيشه منطقة الساحل حالياً هو لحظة تمرد قصوى ضد فرنسا ما تزال في بدايتها ومن الصعب تحديد مآلاتها.
أما أوروبا فتبدو حاضرة في المجال الساحلي في صيغة استراتيجية تنموية لا تثير إشكالات كبرى، بل إن بعض الأطراف الأوروبية، مثل ألمانيا وإيطاليا، استفادت عملياً من الانسحاب الفرنسي فعززت مواقعها في الإقليم، رغم الموقف المبدئي الداعم للديمقراطية التعددية والرافض للانقلابات العسكرية. ومن الجلي أن العديد من الدول الأوروبية حذت حذو الولايات المتحدة الأميركية في رؤيتها الواقعية للمعادلة الساحلية، مع الحرص القوي على قطع الطريق أمام التمدد الروسي في غرب إفريقيا. بيد أن النخب الساحلية ترى أن التعاون مع أوروبا يتركز أساساً في سياسات كبح الهجرة غير الشرعية ومواجهة التطرف الديني المسلح، بما يعني تحويل دول الساحل إلى حراس للبوابة الأوروبية، واختزال برامج الشراكة معها في المساعدات المشروطة في النواحي الأمنية الضيقة.
أما الغرب فهو مصطلح يفهم في السياق الساحلي على أنه مفهوم ثقافي وحضاري يتعلق بطريقة للحياة ونمط التدبير الاجتماعي والسياسي، أكثر من كونه مصطلحاً جيوسياسياً أو استراتيجياً. ولقد ظهرت لدى النخب الساحلية أفكار الهوية والخصوصية والتحديث الاجتماعي المستقل مقابل خطاب العولمة الليبرالية الذي كان سائداً بقوة لدى الحكومات «الديمقراطية» التي عرفتها هذه البلدان منذ تسعينيات القرن الماضي. إن هذه النزعة التي أطلق عليها الفيلسوف الكاميروني آشيل بمبة مصطلح «السيادية الجديدة»، تشكّل اليوم محور خطاب الحكومات العسكرية الجديدة في الساحل في تشبثها بـ«الهوية الإفريقية الأصيلة» مقابل حركية «التغريب القسري». ما يميز هذه النزعة عن الأفكار القومية التقليدية التي كانت تحتفي بالزنوجة و«العبقرية السوداء» (ليبولد سدار سنغور وأميه سزير وجوليوس نيريري.. إلخ) هو موقفها الراديكالي من «الهيمنة الغربية»، والذي يتناغم مع ديناميكية «نزع التغريب» التي تطرحها القيادات الحاكمة في روسيا والصين راهناً.
والسؤال المطروح اليوم بقوة في منطقة الساحل هو: هل يشكل الحضور الروسي المتزايد في الإقليم بديلاً من الدور الفرنسي والأوروبي التقليدي، في ما وراء الانطباع السائد بفعالية ونجاعة النهج الروسي الحازم في مواجهة الإرهاب الراديكالي الذي قوض السلم الأهلي والاستقرار السياسي في الإقليم بكامله؟

* أكاديمي موريتاني