منذ زمن بعيد نسبياً، ربما يعود إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية تشهد دول العالم العربي وربما دول العالم النامي قاطبة موجات نزوح قوية للكفاءات البشرية النادرة ومن المتعلمين تعليماً عالياً والمدربين جيداً في عدد من المهن التي يوجد فيها نقص في الكوادر البشرية، كالطب والهندسة والكيمياء والفيزياء وعلولم الكومبيوتر إلى خارج أوطانهم متجهين إلى أوروبا الغربية والولايات المتحدة وكندا في بادئ الأمر، ثم إلى شتى أصقاع المعمورة شرقاً وغرباً.

هذا النزوح آخذ في الاتساع من الدول العربية تحديداً، لأسباب موضوعية شتى، لكنه لافت للانتباه ومثير للقلق، خاصة في الآونة الأخيرة على ضوء ما تتعرض له دول عربية كسوريا والعراق وليبيا والسودان ولبنان وفلسطين واليمن من كوارث وويلات ومآس، تشيب لها رؤوس الولدان.

وربما أن الظاهرة مثيرة للانتباه ليس بسبب القلاقل السياسية والحروب وحدها، ولكن إلى ما يعتبر ظواهر عامة تسود دولاً عربية مرتبطة بالمشاكل الاقتصادية والاجتماعية وتراجع مستويات المعيشة ونقص الوظائف وتدني الخدمات العامة من تعليم وصحة وبنى تحتية أخرى. المشكلة خطيرة ولها تداعياتها على مستقبل العالم العربي إذا ما استمرت، لذلك فهي تحتاج إلى دراسة متعمقة من المفكرين العرب والجهات المسؤولة في الدول التي تعاني منها وإلى تشخيص دقيق وجذري توخياً إلى حلها والخلاص منها والابقاء على المتخصصين والمفكرين والنوابع في أوطانهم.

إن التشخيص المطلوب لا بد وأن يكون علمياً منهجياً يعود إلى الجذور الأولى التي تخلق المشكلة من الأساس وتتعلق بالإنسان العربي ذاته الذي يعتبر رأس المال الحقيقي لكل مجتمع ودولة والثروة الفعلية التي لو ضاعت من العرب ضاع منها المجتمع والدولة. وبإلقاء نظرة أولى عابرة على أسباب هجرة البشر المتعلمين والمثقفين من العالم العربي إلى خارجه سنجد بأنها إما البحث عن الوظيفة أو عن الحريات الشخصية أو الأكاديمية، أو مؤخراً هرباً من ويلات الحروب والقلاقل السياسية التي تمر بها عدد من الدول العربية. ومما لا شك فيه أن مشكلة كهذه تطرح من ذات نفسها مجموعة ضخمة من التساؤلات الموضوعية التي لا بد من الإجابة عليها لكي يتمكن العالم العربي من حلها: فما هو حجم مشكلة نزوح العقول العربية إلى الخارج بالأرقام والدلائل والقرائن والشواهد؟ وما هو تأثير هذا النزوح السلبي على الدول المعنية؟ وما هي الأخطار المستقبلية الكامنة وراء ذلك؟

وما هي الأسباب الحقيقية لهجرة الإنسان العربي المتعلم والمتخصص إلى الخارج تاركاً وراءه أهله ووطنه وكل ما هو وجداني وغالٍ وثمين لديه؟ وما هي الإجراءات التي تتخذها الجهات المعنية لوقف هذا النزيف؟ وهل لدى العرب خطط عملية يمكن تنفيذها للحد من الهجرة؟ ويرتبط بكل ذلك سؤال جوهري يتعلق بقراءة المستقبل حول هجرة العقول العربية: هل يحمل المستقبل للعرب المزيد من الهجرة لعقولهم إلى الخارج، أم أن العالم العربي سيتمكن في نهاية المطاف من الاحتفاظ بأبنائه لديه؟ وما هو الدور المناط بكل دولة عربية في هذا الشأن؟

وما هي الأدوار الجماعية التي يمكن القيام بها؟ وبالتأكيد فإن الإجابة على جميع هذه التساؤلات ليس ميسوراً في هذا المقام، لكن النظرة المستقبلية للأمر تستدعي القول بأن مستقبل بقاء العقول العربية في أوطانها يعتمد كثيراً على الجهات المسؤولة في الدول المعنية ذاتها، فهي إن بقيت من دون حراك للحد من هذا النوع من الهجرة إلى الخارج عن طريق الاستفادة الكاملة من الكفاءات والخبرات والمهارات التي لديها ووضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، فإن المشكلة لن تحل بالسهولة التي يتخيلها أي إنسان.

وهذا يعني أن هجرة العقول من العالم العربي ستستمر كما يلاحظ في الآونة الأخيرة منذ عام 2011، ومنذ ذلك التاريخ استمرت العوامل الموضوعية الضاغطة التي تتسبب في النزوح. ومقابل ذلك أن عوامل الجذب في الخارج والإغراءات التي تقدمها الدول المستقبلة للكفاءات الجاهزة التي أنفقت على إعدادها وتدريبها الدول العربية أموالاً طائلة كثيرة ومتعددة أقلها الاستقرار الوظيفي والمالي والذهني. وهذه جميعها عوالم خارجية ليس بإمكان الدول العربية التحكم فيها أو التصدي لها.

*كاتب إماراتي