حفاظاً على سنّتها الحميدة، نظمت جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية الأسبوع الماضي مؤتمرَها الثاني للفلسفة الذي خُصص هذه المرة لإشكالية التقدم في أبعادها الفكرية والمجتمعية. ولا يخفى ما لهذه الإشكالية من أهمية فائقة في النظر الفلسفي الحديث، منذ أن أصبح الوعي بالتاريخ اللحظة المؤسسة للنزعة الإنسانية الراهنة.

كان الشاعر المشهور رنيه شار يقول «إن تركتنا ليست مسبوقة بوصية»، وهو يعني أن الإنسانية الحديثة تتميز بكونها لا تبحث عن نقطة ارتكاز في الماضي، وإنما تبني قيمَها ونظمها على «زمنية الحاضر» التي اعتبرها ميشال فوكو أفقَ التنوير.

ومن هنا الإشكاليات المعقدة التي يطرحها مفهوم التقدم على أصعد ثلاثة تناولها الجمع المتميز من الباحثين في الشأن الفلسفي من العرب ومن غيرهم من بلدان العالم الذين حضروا إلى أبوظبي للمشاركة في مؤتمر الفلسفة الثاني.

أما الإشكالية الأولى فتتعلق بمأزق الانتقال والوصل في سياق تطبعه القطيعة مع الجذور والأصول، بحيث يغدو السؤال مشروعاً حول قدرة الذات المتفردة الشفافة أمام نفسها والمنغلقة على وعيها في أن تؤسس لعالم مشترك تحكمه معايير كونية للتوافق والتفاهم.

لقد طرح هذا الإشكال منذ ديكارت، «بطل الحداثة» كما يسميه هيغل، عندما اعتبر أن مجال الحقيقة محصور في أفكار الذات أو الكون الطبيعي (كتاب العالم الكبير). ورغم الحل الكانطي باستكشاف البعد الترنسندنتالي للذات، فإن براديغم الذاتية الذي هو الخلفية الفلسفية العميقة لفكرة التقدم واجه إشكالاتٍ صعبةً في تاريخ الفلسفة.

ومن هنا المحاولات المتكررة للخروج مِن هذا الأفق مِن منظور أولوية الغيرية والاعتراف والاختلاف، بما أدى إلى صيغ أخرى من الوعي أطلق عليها بول ريكور «الوعي الذليل» أو «الوعي المتحطم».

أما الإشكال الثاني، فقد ظهر في المنظومة الليبرالية التي هي التجسيد الموضوعي والمؤسسي لقيم التقدم، من حيث مركزية فكرة الحرية في النسق التنويري الحداثي وما ارتبط بها من مقولات التعاقد الاجتماعي والإرادة المشتركة والتداول العمومي المطلق والمشاركة المدنية.. إلخ.

ولسنا بحاجة إلى التذكير بالإشكالات النظرية والمعيارية التي تطرحها اليوم المسألة الليبرالية في الفلسفة الغربية، خصوصاً بعد منعرج نظريات العدالة الذي دشنته أطروحة الفيلسوف الأميركي جون رولز الشهيرة (العدالة بصفتها إنصافا). وقد تمحورت هذه النظريات حول معضلة التفاوت والتمايز في مجتمعات تحكمها مبادئ الحرية والمساواة في الحقوق والفرص.

إن هذا الإشكال يأخذ أبعاداً جديدة في المجتمعات الليبرالية الراهنة التي تشهد تنامي التعددية الثقافية، وانفجار الهويات الجزئية، وانفصام دائرة الفعل والقرار السياسي عن الحركية المجتمعية، مما يفسر انهيار المنظومات السياسية والأيديولوجية العريقة، وأزمة الديمقراطية التمثيلية والحزبية، وبروز أنماط جديدة من الخطاب السياسي وأنظمة الحكم خارج الأفق الليبرالي (الأحكام الشعبوية اليمينية واليسارية المتطرفة).

والسؤال المطروح هنا هو ذلك الذي صاغه الفيلسوف الفرنسي رجيس دوبريه بملاحظته أن المجتمعات الحديثة قد بنت مقدساتها على التاريخ، وما دام المقدس هو ما يجمع وما يحمل على التضحية، فكيف يمكن لهذه المجتمعات أن تتكيف مع زمنية الحاضر الأفقي الذي لا مكان فيه لغير تقنيات التبادل المعلوماتي والاقتصادي؟

ثالث الإشكالات يتعلق بالتقدم العلمي الذي شكل بالنسبة لفلاسفة التنوير المحدثين نموذجَ التطور الاجتماعي ودعامته الضامنة.

ومنذ الجيل الأول من فلاسفة مدرسة فرانكفورت الذين نقدوا المسلمات الوضعية حول يقينية القوانين العلمية وموضوعية التحقق التجريبي وبينوا العلاقة الوثيقة بين العقل الأداتي ونظام الهيمنة الطبيعية والاجتماعية، لم يعد أحد يراهن على فكرة التقدم العلمي والتقني كأداة لتحرر الإنسانية واكتمالها المعرفي والأخلاقي. بل إن الكثير من الفلاسفة ذهب إلى أن المنظومة العلمية والتقنية قد انتقلت من هدف تحرير الإنسان من خلال سيطرته على الطبيعة إلى إنتاج أخطر أدوات استعباد الإنسان وتحطيم عالمه المعيش والقضاء على مركزيته التي هي أساس النزعة الإنسانية نفسها.

تلك إشكالات رئيسية تناولها الفلاسفة المعاصرون من أوجه مختلفة ومن مشارب متباينة، بيد أن الحقيقة التي لا مراء فيها هي أن مفهوم التقدم لا يزال هو الأفق المستقبلي لاستكشاف ثغرات واقعنا الثقافي والاجتماعي وفق ثلاثية الفلسفة والدين والعلم التي اعتبر الدكتور خليفة الظاهري مدير جامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية في كلمته الافتتاحية المتميزة أنها الإطار الناظم لفكرنا الفلسفي العربي. وبعبارة أخرى، لئن كان مفهوم التقدم يَطرح فلسفياً إشكالاتٍ نظريةً ومجتمعيةً عميقةً ومتشعبةً، فإنه لا يزال في واقعنا العربي أفقاً لبناء المستقبل وتجاوز مأزق الحاضر.

*أكاديمي موريتاني