لم تكن تحذيرات وزارة الخزانة الأميركية للبنان، والتي أبلغها مؤخراً للمسؤولين الحكوميين اللبنانيين وفدٌ برئاسة جيمس بيكر نائب مساعد وزير الخزانة، في زيارة رسمية لبيروت، التحذيرات الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة، إذ سبقتها تحذيرات عِدة من مؤسسات دولية. لكن يبدو أن قلق واشنطن المتزايد جعلها تستبق القرارَ المرتقب صدوره في يونيو المقبل، في اجتماع لمجموعة العمل المالي الدولية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (مينا فاتف)، خصوصاً أن الاتجاه يرجّح خفضَ تصنيف لبنان، وربما إدراجَه على «اللائحة الرمادية»، بعد انتهاء فترة السماح التي أُعطيت له، ولم يحصل أي تطور إيجابي مرتبط بالإصلاحات والقوانين المطلوبة لمنع مرور عمليات مالية مشبوهة. والتحذيرات الأميركية تركز على ضرورة مكافحة اقتصاد «الكاش»، انطلاقاً من تقرير للبنك الدولي حول تطور حجم التداولات النقدية في لبنان والتي بلغت 9.86 مليار دولار عام 2022، أي ما يوازي 45.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.. لكنها تضاعفت لتصل أكثر من 20 مليار دولار العام الماضي، متجاوِزةً بذلك حجمَ الناتج المحلي، لتساهم بنسبة كبيرة في نمو «الاقتصاد الأسود».

ولم ينج مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف من الانتقادات الأميركية، لأنهما يتلكآن على أكثر من صعيد إصلاحي، دون أن يقوما بدورهما منذ بداية الأزمة. وشملت الانتقادات عدم إصدار قانون لإعادة هيكلة المصارف، والتعميم الأساسي رقم 165 الذي يسمح للمصارف بفتح حسابات جديدة بـ«الفريش دولار»، على أن توضع هذه الأموال في مصرف لبنان وليس في المصارف المراسلة الأجنبية، مع الإشارة إلى دراسة أعدها معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى تحت عنوان «عصابات الكاش»، وصفت هذا التعميم بأنه يشكل «جهداً مشبوهاً من مصرف لبنان للتحكم بالاقتصاد النقدي، وسيسهل واقعَ تبييض الأموال، من دون رقابتها، والمرور بالنظام الأميركي عبر المصارف المراسلة».

وخلافاً لذلك، برر «المركزي» إصدارَه هذا التعميم بأنه يهدف إلى وقف «اقتصاد الكاش»، بغية وضع حد لجرائم تبييض الأموال، ومنع إدراج لبنان على «اللائحة الرمادية». أما بالنسبة لقطاع الصيرفة، ومؤسسات تحويل الأموال، فقد أكد مصرف لبنان للوفد الأميركي أنه يقوم بتفعيل الرقابة لقطع الطريق على محاولات تمرير عمليات مالية مشبوهة، ويشمل ذلك فقط الصيارفة النظاميين الذين يعملون بموجب تراخيص قانونية، وهم يخضعون لورشات عمل توعية وتدريب، وعددهم لا يزيد على 297 صرافاً.

لكن هناك الآلاف من الصيارفة العاملين، وهم غير قانونيين، وليس لـ«المركزي» أي سلطة عليهم. وفي ضوء تلك التطورات، ينتظر أن تأخذ مجموعة «مينا فاتف» بالاعتبار نتائج مباحثات الوفد الأميركي مع المسؤولين في بيروت، قبل اتخاذ قرارها الذي سيستند إلى تقييم جديد لنظام مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، ومدى التزام الحكومة اللبنانية المنهجيةَ الإقليميةَ والدوليةَ. وهذا مع العلم بأن التلويح بالتصنيف «الرمادي» هو بمثابة تحذير من عقوبات غير مباشرة تُفرَض على شكل مقاطعة من المستثمرين ومؤسسات التمويل الدولية، نظراً لارتفاع مخاطر التعامل مع لبنان كبلد «مشبوه»، حيث يجد نفسَه في عزلة دولية.

تبقى الإشارة إلى أنه بفعل تداعيات الأزمة الاقتصادية ورفض السلطة السياسية إجراءَ الإصلاحات، تتوالى المؤشّرات السلبية. وبعد تصنيف الليرة اللبنانية «الأسوأ» أداءً بين العامين 2023 و2024، من قِبَل وكالة بلومبرغ، جاء لبنان في المرتبة الثالثة بين الدول الأكثر «بؤساً» في العالم، بعد الأرجنتين والبرازيل، والأولى عربياً، بحسب «مؤشر هانكي للبؤس العالمي» لعام 2023.

* كاتب لبناني متخصص في القضايا الاقتصادية