تكتسب الزيارةُ التي قام بها وزير الخارجية الروسية سيرجي لافروف لبكين في مطلع الأسبوع الثاني من الشهر الجاري أهميتَها مِن توقيتها في سياق المحاولات الراهنة لتصحيح بنية القيادة في النظام الدولي، فمن المعروف أن ثمة جهوداً تجري منذ سنوات في هذا الاتجاه. وقد ساد انطباع ساذج بعد تفكك الاتحاد السوفييتي بأن التاريخ قد انتهى، وفقاً لمقولة فوكو ياما، وأن قيادة النظام الدولي قد حُسمت إلى الأبد لمصلحة المعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة.. وهو انطباع تفنده خبرةُ التاريخ التي تشير إلى المعنى الوارد في الآية الكريمة «وتلك الأيام نداولها بين الناس»، والذي أكدته كتابات عديدة، منها ذلك الكتاب الشهير لمؤلفه بول كيندي حول «صعود الإمبراطوريات العالمية وسقوطها». وبالفعل سرعان ما بدأت بعضُ التفاعلات التاريخية تعمل باتجاه العودة للطابع التعددي لقيادة النظام الدولي، وإن بوتيرة بطيئة نسبياً، ولعل أهم هذه العمليات قد تركز في أمرين، أولهما استنزاف القيادة الأميركية لقدراتها في مغامرات خارجية ثبت فشلها، كغزو أفغانستان في عام 2001، والذي دام 20 عاماً ليعود إلى نقطة الصفر في عام 2021 بانسحاب القوات الأميركية من ذلك البلد، وعودة حركة «طالبان» للحكم في كابول. وكذلك غزو العراق في عام 2003، والذي قوبل بمقاومة عراقية ضارية كبّدت الأميركيين خسائرَ موجعة، والأهم من هذا وذاك أن السياسة الأميركية في العراق بعد الغزو قد فتحت الباب لتعاظم النفوذ الإيراني في بلاد الرافدين بما يتناقض مع المصالح الأميركية بالتأكيد.
أما الأمر الثاني فهو استمرار الصعود الدؤوب للصين نحو قمة النظام الدولي بعد إنجازاتها الاقتصادية الهائلة، وكذلك صحوة روسيا بعد التدهور الحاد الذي لحق بقوتها في ظل رئاسة يلتسين عقب تفكك الاتحاد السوفييتي، والتي بدأت منذ وصول الرئيس فلاديمير بوتين للسلطة في عام 2000. وفي هذا السياق اكتسب التعاون الصيني الروسي أهميةً فائقةً بالنظر إلى أنه أياً كان التراجع الذي حدث للقوة الأميركية فقد بقيت الولايات المتحدة القوة الأولى في العالم اقتصادياً وعسكرياً، ومن ثم سياسياً، وهي قوة لا تمكن مواجهتها بفاعلية دون تحالف أو على الأقل تعاون روسيا، صاحبة ثاني أقوى جيش في العالم بالإضافة لمقوماتها الاقتصادية والتكنولوجية الفائقة، مع الصين التي تحتل المرتبة الثانية عالمياً في المجال الاقتصادي وصاحبة ثالث أقوى جيش بين جيوش العالم.
ومن الواضح أن الدولتين، روسيا والصين، واعيتان كلَّ الوعي بهذه الحقيقة، ولعل أبرز المؤشرات في هذا الصدد هو وصول الشراكة الاستراتيجية بينهما إلى آفاق لا محدودة منذ الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي بوتين للعاصمة الصينية بكين في فبراير عام 2022، قبل أيام من انطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. ولم يحدث أي شيء يعكر صفو هذه الشراكة، رغم التعقيدات التي تداعت جراء تلك العملية، وإن بدا وكأن الصين تتبنى موقفاً متوازناً من الأزمة الأوكرانية، وتحاول القيامَ بدور للوساطة لا يدين العمليةَ صراحةً، ولا يتجاهل المصالح الروسية، وهو موقف ترضى عنه روسيا. وبالمقابل تساند روسيا الصينَ في قضاياها الحيوية، وبالذات تلك المتعلقة بوحدة التراب الصيني وبحر الصين الجنوبي، ناهيك بتنمية التعاون الاقتصادي بينهما، وخاصة في مجال الطاقة، وكذلك التعاون التكنولوجي وخصوصاً في مجال الفضاء والمحطات الفضائية. ومن هنا أهمية زيارة لافروف الأخيرة لبكين التي استقبله فيها الرئيس الصيني، وتمت خلالها مناقشةُ كافة القضايا، وأُعلن فيها أن العلاقات الثنائية بين الجانبين وصلت لمستوى غير مسبوق، وفي انتظار المزيد مع الزيارة المرتقبة التي ينوي بوتين القيام بها للصين.


*أستاذ العلوم السياسية - جامعة القاهرة