يبدو كتاب «منع فلسطين: التاريخ السياسي من كامب ديفيد إلى أوسلو» لمؤلفه «سيث أنزيسكا» عملاً مهماً وعميقاً، لكنه في الوقت ذاته مزعج بدرجة كبيرة، فهو يتعقب الطريق الوعر لعملية صنع السلام في الشرق الأوسط خلال العقود الأربعة الماضية، وقد كانت قرائنه مؤلمة إيلاماً شديداً، ونظراً لكونه مراقباً وثيقاً ومشاركاً في بعض الأحيان في كثير من التطورات التي حدثت منذ نهاية حرب عام 1973، فتح «أنزيسكا» جراحاً قديمة، مسلطاً ضوءاً جديداً على أحداث مؤلمة ووقائع خيانة أسهمت في تشكيل التاريخ الفلسطيني الحديث.
وفي خضم منعطفات تلك الفترة، والحروب القاسية والمبادرات الدبلوماسية، تكشّف أن الثابت الوحيد هو الرفض الإسرائيلي القاطع للاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير المصير وإقامة دولتهم، وكذلك ابتهاج الإسرائيليين بعناد الإدارات الأميركية المتعاقبة الذي يخدم مصالحهم.
ويرى «أنزيسكا» أن الجناة كُثُر، ففي روايته لهذا التاريخ، يمكن أن نجد كثيراً من الأطراف المخطئة في هذا الصراع، لاسيما الإدارات الأميركية ورؤساء الوزراء الإسرائيليين، سواء كانوا من حزب «العمال»، أم «الليكود»، وكان للفلسطينيين نصيب أيضاً من اللوم الذي وجهه الكاتب، فلم ينج من سهام اتهامه حتى الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.
وفي طريق بحثه عن السجلات الرسمية للإسرائيليين والأميركيين والفلسطينيين، والأطراف الأخرى التي شاركت في حروب المنطقة والمساعي الدبلوماسية المختلفة، ينقب «أنزيسكا» في أرشيفات الحكومات، ومراكز الأبحاث للكشف عن الكتابات المعاصرة ومحاضر الاجتماعات والبيانات الرسمية، ليسرد القصة الكامنة وراء الأحداث التي وقعت.
والمثير للاهتمام بصورة خاصة في الكتاب هو المناقشات الداخلية التي جرت في الاجتماعات الوزارية الإسرائيلية، وكيف أنها وضعت غطاء التسوية الدبلوماسية، في حين أن الحكومة تشبثت برفضها الصارم للتنازل عن أي سيادة على الأراضي الفلسطينية، أو الإقرار بوجود دولة فلسطينية، ومن المهم كذلك تلك المناقشات التي حدثت بين الرئيس كارتر ومساعديه، ووقاحة رئيس الوزراء الراحل آرييل شارون في التعامل مع المبعوثين الأميركيين، وجبنهم في وجه تنمره، والطريقة التي سعى بها «مناحم بيجن» في البداية ليقدم نفسه منقذاً للمسيحيين في لبنان، لينقلب عليهم بعد أن رفضوا توقيع اتفاقية سلام وفقاً للشروط الإسرائيلية، ومؤامرات زرع الفتنة بهدف إنهاء الوجود الفلسطيني في لبنان، إضافة إلى مواقف الرئيسين الأميركيين جيمي كارتر ورونالد ريجان، ووزيري الخارجية جورج شولتز، وجيمس بيكر مع الإسرائيليين.
وما يبدو مفتاحاً لرفض حقوق الفلسطينيين هو حالة «الشلل الذاتي» التي فرضها صناع القرار الأميركيون على أنفسهم في مواجهة عناد الإسرائيليين، وهو ما أسفر عن مخاوف الإدارات المتعاقبة من التداعيات السياسية المحلية التي يمكن أن تعقب أي ضغوط يمكن أن تمارسها واشنطن على إسرائيل. ومرة تلو الأخرى، ضاقت المبادئ الأميركية ذرعاً بالذرائع الإسرائيلية، ورفض المتعصبين الإسرائيليين الاعتراف بالحقوق القومية للفلسطينيين ومنحهم إياها، لكنها سرعان ما تذعن بعد تحذير المستشارين للرؤساء الأميركيين من التداعيات السياسية التي يمكن أن تحدث. ولم يكشف كتاب «أنزيسكا» عن أي شخصيات تتصف بالشجاعة بين الأميركيين فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
فعلى سبيل المثال، بدأ كارتر مدته الرئاسية بوعد إقامة «وطن» للفلسطينيين، وفي سياق التزام إدارته بحقوق الإنسان، كان في سبيله لإنهاء معاناتهم في المنفى وتحت نير الاحتلال، لكن وسيلته التي تصورها للمضي في هذا الطريق كانت عقد مؤتمر دولي يجمع الأطراف كافة لإنهاء الصراع العربي- الإسرائيلي. وانتهت جهود «كارتر» بمجموعة من الرفض الإسرائيلي للمشاركة في أي منتدى يشكك في ادعائهم السيادة على الأراضي الفلسطينية، وضغوط الجالية اليهودية في أميركا، التي تسببت فيما يكفي من الاضطرابات داخل البيت الأبيض، بدرجة جعلت كارتر يتراجع عن الضغط على إسرائيل من أجل منح الأرض أو الحقوق السياسية للفلسطينيين.
وفي نهاية المطاف، أذعن كارتر، وعلى رغم من أن اتفاقية «كامب ديفيد» وعدت بمناقشات مستقبلية حول خطة عمل من أجل «حكم ذاتي للفلسطينيين»، لكن يبدو أن ذلك كان يعني في المعجم الإسرائيلي أن يحكم الفلسطينيون أنفسهم، لكن ليس على أراضيهم. وفي غضون العقود الأربعة التالية، شهدت المنطقة غزواً إسرائيلياً مروعاً للبنان واحتلالاً، إلى جانب قصف جوي وتدمير لبيروت، ومذابح في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، وانتفاضتين فلسطينيتين، وجهود أميركية متكررة فاشلة لصنع السلام.
وخلال هذه العقود، ارتبكت الولايات المتحدة، فهي تقر برغبتها في حل الصراع، لكنها ترفض ممارسة أي ضغط مطلوب لتحقيقه. ويقول «أنزيسكا»: «إنه خلال تلك الفترة، أصر الإسرائيليون، رغم زعمهم الموافقة على التفاوض، على سيادة حصرية لهم على الأراضي المحتلة، وما يزعمون أنه حق منحهم الله لهم للاستيطان فيها». ويشير إلى أن هذه لم تكن حتى المواضيع التي يناقشونها.
ونتيجة لهذا العناد الإسرائيلي والرد الأميركي الضعيف، تعمّق الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وفي 1977، كان هناك ما يتراوح بين 5 آلاف و8 آلاف مستوطن إسرائيلي في الضفة الغربية، لكن بحلول 1992، بات هناك 100 ألف مستوطن، ويتجاوز العدد في الوقت الراهن أكثر من 600 ألف. وبرغم البهجة التي صاحبت توقيع اتفاقات أوسلو في عام 1993، إلا أن «أنزيسكا» يوضح أن المكاسب التي حصل عليها الفلسطينيون في أوسلو تلاشت بإصرار إسرائيل على السيطرة على الأرض والموارد والأمن والحدود.