هل يمكن تجنب الحرب في إدلب لإنهاء تعنت التنظيمات الإرهابية؟ لقد فشلت الجولة الحادية عشرة من لقاءات آستانة، ولم تتمكن الدول الضامنة من الوصول إلى مخرَج سياسي برغم تمديد المهلة المحددة لإقناع «النصرة» وأمثالها بحل تنظيماتها، وكذلك لم يتوقف النظام وحلفاؤه عن قصف مناطق متعددة في ريف إدلب وحماه. وقد وقعت مجازر عدة وقتل العشرات من المواطنين في اختراقات النظام لاتفاقية سوتشي بين روسيا وتركيا، وأكثر الضحايا دائماً نساء وأطفال، وتصاعد عدد التفجيرات والاغتيالات ولا تزال حياة نحو أربعة ملايين مواطن تتعرض لخطر يومي، ولم تفلح نقاط المراقبة بتحقيق أمان لمن حولها، لأن ذلك يقتضي فتح جبهات ثانوية ربما تؤجج حرباً تعرض كل المواطنين لخطر مريع.
ومع أن جميع الدول المعنية بالقضية السورية لا تزال تؤكد التزامها بوحدة سورية أرضاً وشعباً، فإن ما نراه على الواقع يتجه إلى تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ، والنظام هو الخاسر الأكبر لمعنى السيادة حتى على المناطق التي استعادها، فالإيرانيون يعتبرون سوريا المحافظة الـ35 والروس هم أصحاب القرار العسكري والسياسي في سوريا، فهم الذين مكنوا النظام من استعادة المناطق التي كانت تسيطر عليها المعارضة عبر تصعيد العنف ثم تخيير السكان بالهجرة إلى الشمال، أو الإذعان للمصالحات، ولابد أن يكون لدى الروس (الذين حشدوا الألوف من المهجرين قسرياً في إدلب وأرياف حلب وحماه واللاذقية) خطة ما لمصير هذا التجمع السكاني الضخم، ولا توجد في الشمال السوري حاضنة شعبية للتنظيمات المتطرفة، وأغلب الشباب السوريين الذين يمكن أن نجدهم في صفوف هذه التنظيمات هم ممن فقدوا الأمل بحياة كريمة واضطروا للبحث عن مصادر عيش، ولم تعد أمامهم خيارات وطنية بعد أن تمكنت التنظيمات المتطرفة من توجيه ضربات لـ«الجيش الحر»، الذي توقف عنه الدعم كلياً بينما تدفق الدعم على التنظيمات الإرهابية! ولولا هذا الدعم لما تمكنت من متابعة التحدي ولاضطرت للاستسلام، إذا توقف عنها المال والسلاح والذخائر.
وهذا يذكرنا بتنظيم «داعش» الذي عاد إلى الحياة بعد إعلان هزيمته على يد التحالف الدولي، لينفذ مهام في السويداء وفي مناطق من حوران لصالح النظام وإيران. ويبدو أن الولايات المتحدة بدأت مؤخراً بتصعيد اهتمامها بالملف السوري بعد أن أهملته طويلاً، فتصريحات المبعوث الأميركي الجديد في سوريا جيمس جيفري توحي بجدية، ولاسيما بعد أن حدد رؤية حكومته بقوله (نحن في حاجة إلى حكومة سورية لا تدفع نصف سكانها إلى مغادرة البلاد، وهذا بالفعل ما حصل، ولا تشنّ حرباً إجرامية على شعبها، ولا تستخدم الأسلحة الكيميائية، ولا تهدد جيرانها، ولا توفّر قاعدةً لمشروع الطاقة الإيراني، ولا تنشئ أو تتسبب في إنشاء حركات إرهابية مثل داعش). وقال جيفري (إن إيران جزء من المشكلة وليس الحل في سوريا)، مجدداً الدعوة إلى انسحاب جميع القوات الإيرانية.
وسيبدو للمواطن السوري الذي يترقب حلاً سريعاً أن الحل بعيد، لأن الوصول إلى حكومة سورية بالمواصفات التي ذكرها جيفري يعني رحيل النظام الذي لا يستطيع أن يبدل سلوكه، فبعد أن استعاد حوران مثلاً بدأ بالاعتقالات برغم المصالحات، وبدلاً من أن يبدأ مرحلة انتقالية سارع إلى مرحلة انتقامية، وهذا ما يخيف المواطنين في إدلب، فمع أنهم يريدون الخلاص من التنظيمات الإرهابية التي زرعت الخوف والرعب بينهم، لكنهم في الوقت ذاته يخشون عودة النظام، ولاسيما بعد أخذته العزة بالنصر، فنسي أن هذا النصر الذي حققته له روسيا وإيران هو نصر زائف، لأنه انتصاره على الشعب جاء بعد دمار شامل، وبعد أن أوقع سوريا تحت سلسلة من الاحتلالات، مما أضاف مهمة كبرى على عاتق الشعب فوق مهمته في مقاومة الاستبداد، هي مقاومة الاحتلال مستقبلاً.
الحل الذي يجنب إدلب مجازر كبرى سيتعرض فيها ملايين الناس للموت والتشرد والنزوح إلى المجهول، هو أن تتوقف الدول المعنية عن دعمها للتنظيمات المتطرفة، وأن تقبل باسترداد عناصرها الذين يشكلون الأغلبية الساحقة بين المنتسبين لهذه التنظيمات، وهي المعنية بمحاسبتهم إنْ كانوا حقاً خارجين عن إراداتها. لقد أصبح فشل لقاء آستانة 11 نذير حرب ما لم يسارع العالم لتعاون دولي يعيد ترتيب الأولويات، فالوصول إلى رؤية حل سياسي واضح التفاصيل، سيجعل المواطنين السوريين مطمئنين إلى المستقبل، وسيفهم المجرمون والمتطرفون معاً أن لا مستقبل لهم في سوريا.