يرُوج الحديث في هذه الأيام عن مهرجانات السينما في العالم العربي وأفريقيا حتى دوائر الدياسبورا (المنفي الأفريقي في الغرب). وأنا لست من نقاد السينما أو كتَّابها، ولكن بالتأكيد أقرب إلى التنمية الثقافية، أو الإنتاجية بطابعها الديمقراطي الشامل،، وهكذا نقول بالتنمية في كافة المجالات، وهنا يأتي الحديث عن الصناعات الثقافية وتحديدا صناعة السينما...وعندما نربط صناعة السينما بالتنمية، إنما يتطلب ذلك البحث عما تضيفه هذه المهرجانات إلى بنية «الإنتاجية» الوطنية القائمة على«رأسمال محلي»، أو روح الاستقلالية، أو مقرطة الصناعة، أو الحراك الاجتماعي بخلق فرص عمل من داخل فرص الإبداع والتفنن!
وقليل في الكتابات السائدة من يهتم بهذا الجانب، ولا تؤكد الحاجة لذلك قدر الشواهد التي يثبتها حضور العدد المحدود من الأفلام العربية أو الأفريقية في هذه المهرجانات نفسها ومنها أربعة في مصر، بسبب افتقاد قدرة التمويل المحلي وضعف البنية التحتية. هذا الاحتياج المُلِح لربط الإنتاج السينمائي وصناعة السينما عموما بقضايا التنمية، والصناعة الوطنية، هو ما جعل كتابات أفريقية عن الاقتصاد الأفريقي تتضمن الحديث عن الصناعات الثقافية مع تقدم البحث والإبداع على نحو ما فعل أستاذ شهير مثل «بول زيليزا ‏Zeleza?» (?مالاوى) ?او ?باحثي ?سسيولوجيا ?الثقافة ?ممن ?رأوا ?أن ?رواج ?الأفلام ?السينمائية ?والبضائع ?الثقافية ?وغيرها ?من ?صور ?الإنتاج ?التقافي ?المشوه ?إنما ?هو ?خدمة ?لنمو ?الرأسمالية ?المحلية ?المشوهة ?أيضا أو ?العالمية ?المهيمنة ?فقط ?، ?كما ?كتب ?في ?مصر ?أمثال «?سمير ?فريد» ?و «?فاروق ?عبد ?القادر» ?، ?وكذا ?صدرت ?النداءات ?كالاستغاثة ?من «?سيد ?فؤاد» ?و«?عزة ?الحسيني»?- ?مسؤولو ?مهرجان «?الأقصر ?للسينما ?الأفريقية» ?- ?، ?حتى ?لا ?يتحول ?هذا ?الفن ?الراقي ?إلى ?مجرد ?أداة ?للترويج ?السياسي ?أو ?التجاري ?، ?بقدر ?ما ?هو إحدى ?أدوات ?الانتماءات ?الوطنية. ولا يعالج هذه الشكوى إلا ما رأيته في مهرجان الأقصر للسينما الأفريقية الذي يعقد الندوات ويستحضر الكتابات عن إشكاليات صناعة السينما في أفريقيا، وهذا نادر في المهرجانات المعولمة. والملفت فيما يثيره فنانون مسؤولون عن مهرجان مثل الأقصر أو «فيسباكو» في بوركينا فاسو، هو ربطهم بين تطور «فن» السينما، دون تطور احتياجاتها أو مواجهة تحدياتها، إذ يختفي دور الدولة الوطنية التنموية مثلما كان في مصر وغانا تحديداً في الستينيات، ليبرز دور الرأسمالية التجارية التي تبحث عن دور باسم الشعبوية أحيانا (مصر)، أو عن سوق أوسع (نيجيريا، جنوب أفريقيا). ولا يبحث الممول الأجنبي للفيلم الأفريقي، أو الرأسمالية التجارية في بلادنا، عن صناعة سينما وطنية مرتبطة بهذا الفن مثلما فعل «طلعت حرب» مثلا الذي بنى «أستوديو مصر»، واشتغل وغيره ببناء «دور العرض السينمائي»، فانتشر فن السينما وبنيته التحتية من دون مهرجانات، كما تأكدت روح القومية والعروبة، والاستقلالية الوطنية نتيجة انتشار الفيلم في أنحاء مختلفة على نحو ما عرفناه من أثر السينما المصرية، كما تأثرت أفلام أفريقية عديدة بتيارات فكرية مثل «النجريتيد، والأ وبونتو»..... ونذكر هنا أن الإمكانيات المحدودة في الدول الوطنية، لا تحول دون إنتاج أفريقي كبير مثل فيلم «ينابيع الشمس» الذي صور النيل من منبعه لمصبه (تصوير التلمساني)، ولا يُتوقع مثل هذا الدور أو الأثر مع مجرد رواج سينما المهرجانات أو السينما للتجارة بهذا الفن. وهنا لا نستطيع أن ننكر تأثير كبار الفنانين الأفريقيين، مهما مثلوا نماذج النجومية العالمية، على توجهات أفلام أفريقية في التعبير المأساوي عن قضايا ما يسمى ب «الهجرة غير الشرعية» مقابل الحديث السابق عن المغتربين في أوروبا، أو قدرتهم على تصوير التراث الأفريقي في أثواب جديدة بقدر تصويرهم لمشاكل الإرهاب والفساد.
وقد اكتشفت من حضوري لمهرجان الأقصر للسينما الأفريقية لعدة سنوات والذي تقيمه مجموعة الفنانين المستقلين، أن ثمة دورا لمنظمات المجتمع المدني في النهوض بهذا الفن، واستقلاليته بعيداً عن نفوذ «الدول» التي تبدو غير جادة أو منحازة لاستغلالية التجار، وفي الحالة الأفريقية الأوسع نجد نفوذ المانحين الأوروبيين خاصة على دوائر هذا الفن، فنجد أحسن الأفلام وفنانيها مثل أفلام (عثمان سمبين - عبد الرحمن سيساكو- سليمان سيسيه - وهايلي جريما – ومحمد هوندو) معروضة في مهرجانات دولية رغم أن هؤلاء من بلدان فقيرة مثل مالي وبوركينا فاسو وموريتانيا وأثيوبيا...ممن لم يتوفر لديها أية بنية تحتية لصناعة السينما.. فالدول الوطنية كانت تهتم بدعم الهوية الثقافية الوطنية لشعبها بأقل الإمكانيات، بينما المانحون من الدول الغنية لا يهتمون بمسألة الهوية أو التنمية أصلاً، إلا إذا ارتبط ذلك بالتأثير الأوروبي القديم أوالحداثة وفق مناهجها على الفنان الأفريقي الحديث. ولا يساعد ذلك في بناء قدر من الاستقلالية أو بناء الهوية. وهنا ظهرت قيمة انشغال بعض الفنانين في الدياسبورا مثل هايلي جريما (أثيوبيا) وغيره بهذه القضية.
ونتصور أن وجود مهرجانات أفريقية كبيرة مثل «فيسباكو» (بوركينا فاسو)، «وقرطاج» (تونس)، و«الأقصر» (مصر)، يشجع كثيرا على الإنتاج الأفريقي للسينما، على أساس فني عالٍ، إزاء الاشتهار الزائف بالإنتاج الوفير من نيجيريا (2000) فيلم، وجنوب أفريقيا بالمثل...إن استمرار عزل صناعة السينما ونجومية الفن السينمائي، عن التنمية الوطنية، يؤدى إلى بروز الاغتراب الثقافي، مقابل بحث الفنانين بل والتجار عن «العالمية» وليس تنمية الأسواق الوطنية.
الفيلم القائم على الصناعة السينمائية الوطنية، يخلق الوعي، والإبداعية المقاوِمة معاً، ويقوم بدور الفنان الشعبي القديم، أو ما يسمى في غرب أفريقيا «جريو التراث الشعبي»...وفي البحث عن حلول ظهرت الدعوات إلى الإنتاج المشترك الأفريقي/ الأفريقي، وتمويل المهرجانات الوطنية ومنح الجوائز، وتكوين الفيدراليات بين المنتجين الأفارقة، وعرض الأفلام للجماهير في مواقعها المختلفة، كما نتصور استثمار الثروات العربية في تنمية الإنتاجية مثلما فعلت رأسمالية «طلعت حرب» المحلية من قبل.