منيت زراعة البصل في الهند بكارثة هذا العام. الرطوبة العالية أدت إلى تلف المخزون من المحصول الكبير، إضافة إلى جفاف طويل أدى إلى رداءة الموسم الجديد. البصل هو أساس المطبخ الهندي مع الكاري. وقلة الإنتاج تعني ارتفاع الأسعار، مما يؤدي بدوره إلى إثارة اضطرابات اجتماعية ومشاكل داخلية. وزاد في تعقيدات هذه المشاكل، القرار بوقف تصدير البصل الهندي، مما أزعج التجار الذين يعتمدون على تصديره للحصول على العملة الصعبة. والذين يخشون من فقد الأسواق التقليدية التي يتعاملون معها. ولتجنب هذه المشاكل تتطلع الهند لأول مرة لاستيراد البصل. والمكان الأقرب والأفضل للاستيراد هو باكستان. وتشاء الأقدار أن يكون موسم البصل في باكستان جيداً هذا العام. ولكن العلاقات الهندية – الباكستانية ليست على ما يرام. قبل مشكلة كشمير وبسببها، وبعدها. مع ذلك فان حاجة الهند لاستيراد البصل لا تقل عن حاجة باكستان إلى تصديره.
ثم أن المطبخ البنغالي (في بنجلاديش) يعتمد أيضاً على البصل. ومصدره هو الهند. ولكن الهند لا تستطيع أن تصدره هذا العام. بل هي تحتاج إلى استيراده. ولقد ارتفعت أسعار البصل ثلاثة أضعاف في أسواق دكا العاصمة، مما حمل رئيسة الحكومة الشيخة حسينة واجد إلى رفع الصوت احتجاجاً على الموقف الهندي بوقف التصدير دون سابق إنذار. ولمعالجة الأزمة تتطلع بنجلاديش إلى الأسواق البديلة.. وذهبت هي كذلك حتى إلى باكستان. وبين باكستان وبنجلاديش «ما صنع الحداد». الآن يمكن للبصل أن يغير الصورة وأن يقلب الوضع رأساً على عقب. ويمكن أن يشكل جسراً لبناء علاقات حميمة مرة جديدة.
واستدراكاً لموقف باكستاني سلبي أو متحفظ، فان بنجلاديش تطرق أبواب دول أخرى لاستيراد البصل منها تركيا، ومصر أيضاً.
أما في الهند بالذات، فان البصل لعب في السابق، وقد يلعب اليوم أيضاً دوراً في معادلات صراع القوى السياسية على السلطة. ففي عام 1980 وقعت أزمة بصل مماثلة. واستطاعت أنديرا غاندي (ابنة جواهر لال نهرو) أن توظف الأزمة للوصول إلى السلطة. ونجحت في ذلك باتهام السلطة بالتقصير وسوء الإدارة مما أدى إلى ارتفاع الأسعار. الآن يواجه الرئيس نارندرا مودي أزمة البصل، ولكنه يعتمد على شعبيته الكبيرة في المجتمع الهندوسي لتجاوزها بسلام. غير أن الأمر ليس سهلاً. فالهندوس يحرمون أكل اللحوم. ولذلك يشكل البصل مادة أساسية في الطعام النباتي البديل. وارتفاع أسعاره بسبب تراجع الإنتاج يشكل مشكلة لدى الفقراء. وهم كثيرون ويشكلون القاعدة الانتخابية الأوسع. من أجل ذلك يتطلع الرئيس مودي ربما لأول مرة في تاريخ الهند الحديث إلى استيراد البصل من الخارج القريب (باكستان)، ومن الخارج البعيد (مصر). والإنتاج المصري هذا العام كان جيداً لحسن الحظ. وحاجة مصر إلى التصدير (للحصول على العملة الصعبة) حاجة ماسة أيضاً. وهكذا فتحت جسور التعاون بين الهند ومصر، وبين باكستان وبنجلاديش، وحتى بين الهند وباكستان.
وما فرّقته العصبيات القومية والدينية، والمصالح السياسية، تجمعه الحاجة إلى البصل، الذي يعتبر سيد المائدة.
منذ الانفصال الكبير في عام 1947 الذي قسم الهند إلى دولتين، (الهند والباكستان) ثم قسم باكستان إلى دولتين أيضاً (بنجلاديش وباكستان)، لم تعرف هذه المنطقة الآسيوية طعم الاستقرار السياسي ولم تنعم بالتعاون الاقتصادي.
هذه المرة بدأت الحاجة إلى البصل تغير كل شيء.. وربما تنجح حتى في توفير ظروف أفضل تساعد على تحقيق الاستقرار السياسي مما يستجيب للحاجات الاجتماعية والغذائية المشتركة، والتي يشكل البصل عنصراً أساسياً فيها.
فما لم تحققه دبلوماسية التسلح النووي، والحروب الإقليمية والصراعات العنصرية، قد تحققه دبلوماسية البصل؟!.