«الزهور دامعة، وأشجار الصفصاف تُولولُ، والدموع تذرف مُحلّقة لأجل صاحبٍ طيبٍ مرح، وفي البعيد أنغام حزينة تنوح بها كمنجة (التشيلو) الضخمة، ورِفعة يقول للأبدية مرحباً»، كلمات قصيدة بالإنجليزية تنعي المهندس المعماري العراقي رفعة الجادرجي، الذي غادر الحياة الجمعة الماضية، لم يكتب القصيدة شاعر، بل رجل الأعمال حارث الزهاوي، وهو والد ناظم الزهاوي، عضو البرلمان البريطاني والوزير السابق عن حزب المحافظين، وأول نعي صدر عن الجادرجي في رسالة صوتية متهدجة في «واتساب» لصديق الجادرجي المهندس المعماري الفلسطيني الأردني راسم بدران، ذكر فيها أن الجادرجي «توفي قبل ساعتين، عن 93 سنة، وكان يعاني من شلل نصفي، والتهاب رئوي مزمن، والإصابة بفيروس كورونا».
وأعقب ذلك بالفيسبوك نعي من المعماري الأكاديمي العراقي خالد السلطاني، زميل مدرسة العمارة الأكاديمية الملكية في كوبنهاغن بالدنمارك، تحدث فيه عن «فقدان العمارة العراقية والعربية والإقليمية أحد رموزها»، والسلطاني مؤلف كتاب «رفعة الجادرجي: معمار» (في نحو 550 صفحة من القطع الكبير)، بمناسبة بلوغ الجادرجي التسعين عام 2016، ويتضمن الكتاب دراسة معمارية مصورة لأعمال الجادرجي منذ مبنى «عبد اللطيف الحمد» في بغداد عام 1955، ومبانيه في ستينيات وسعبينيات القرن الماضي، بينها «مبنى اتحاد الصناعات العراقي»، و«شركة التأمين الوطنية في الموصل»، و«عمارة الشيخ خليفة» في المنامة بالبحرين، و«مجمع مجلس الوزراء» في بغداد، وتصاميم «مجلس الأمة» في الكويت.
وحظ الجادرجي مع الحياة كحظ العراق، في عام 1977 اعتُقل وحكُم عليه بالسجن المؤبد.، وبعد سنتين في السجن، منها شهران في زنزانة الإعدام، نُقل مباشرة، وهو بملابس السجن إلى القصر الجمهوري، وطُلب منه الإشراف على خطة كبرى لإعمار بغداد! وفي السجن وضع الجادرجي كتابه الجميل عن العمارة العراقية «الأخيضر والقصر البلوري»، الذي ستتوارثه أجيال الباحثين وطلبة الهندسة المعمارية، والكتاب موسوعة فريدة عن العمارة العراقية في 550 صفحة، تضم معلومات وصوراً فوتوغرافية وتخطيطات هندسية.
و«للقلب أسبابه التي لا يعرف العقل عنها شيئاً»، يقول ذلك عالم الرياضيات الفرنسي باسكال، كذلك ابتهج قلبي عندما دُعيتُ في خضم حرب الخليج عام 1991 لحضور ندوة حول أعمال الجادرجي، شارك في تنظيمها قسم الفلسفة بجامعة هارفارد، وقسم العمارة بمعهد ماساشوستس للتكنولوجيا في بوسطن، وناقش مؤرخون وفلاسفة أميركيون نظريات الجادرجي في العمارة، فيما كانت محطات التلفزيون تنقل صور دمار أحدثه القصف الجوي بمركز الاتصالات الذي بناه الجادرجي في بغداد، والذي بدا كتمثال تجريدي متداعي يتلاعب الهواء بأحشائه العارية، وتجنّب الجادرجي ذكر بنايته المدَّمَرة، مع أنها كانت تخيم على حديثه عن الشكل المعماري، الذي «يتحرك ما أن يولد، ويخطو خطوة ذاتية حرة وخطوة، أو حركة غير مستندة إلى العوامل التي ولدت الشكل في الأساس.. ويصبح عاملاً من عوامل تغيير المجتمع الذي ولده، بل يبدأ يؤثر في مجتمعات أخرى بعيدة عنه تاريخياً وجغرافياً».
وكالمعيودة السومرية «إنانا» (سيدة القلب الكبير)، تحدّت بلقيس شرارة، زوجة رفعت الجادرجي، ذعر الموت بكورونا، في مقالتها التي نشرتها الأحد الماضي صحيفة «المدى» الإلكترونية، وتحدثت عن «لحظة رحيله وفراقه القاتمة السوداء.. إنها لحظة الحزن والفراغ الذي أحدثه في حياتي، الآن الأيام تذوي أمام ناظري والنهار يذوب في الليل، والعتمة في كل مكان مهيمنة على الوجود بفقدانه، أحدق أحياناً بالظلمة لكيلا أبكي على نفسي، أحس بفراغ كبير، كشجرة خاوية من ماء الحياة»، السيدة بلقيس شرارة: الشجرة الخاوية من ماء الحياة، لا تستطيع أن تقول ما بها، وأنت التي تقولين مترعة بكلم الحياة الطيب، لك ولأصدقاء وتلامذة الجادرجي، ولأهله العراقيين الطيبين.

*مستشار في العلوم والتكنولوجيا